في ولتون بارك!
بقلم/ مصطفى الزائدي
اجتمع في لندن ممثلون من عدة دول متدخلة في الشأن الليبي، العنوان المعلن كان بحث الأزمة الليبية وسبل حلها، ولم يحضر الاجتماع أي من الأطراف الليبية، وخلص إلى بيان إنشائي يدعو إلى أهمية الحل السياسي وتشكيل حكومة واحدة وإجراء انتخابات في أقرب وقت، وهو تكرار للعديد من البيانات التي تخرج عن الاجتماعات المشابهة للدول المتدخلة في إطار ما يسمى المجتمع الدولي.
قراءاتي لما بين السطور لما لم يعلن عن اجتماع ولتون بارك أنه جرى تفاهم الأطراف على تقاسم مصالحها في ليبيا عندما يستقر الوضع الدولي الراهن ويعاد تشكيل مناطق النفوذ والسيطرة، فهدف الاجتماع الأساسي كان مصالح الدول المتداخلة وليس مصالح الشعب الليبي. الحديث عن الحكومة الواحدة والانتخابات ليس سوى لوازم الشغل وضرورات الخطاب الإعلامي، فهو كلام مكرر منذ 2014 عندما أجريت الانتخابات النيابية التي أفرزت عددا من النواب الذين يمتلكون قدرا من الاهتمام بمصالح الوطن، لكن المجتمع الدولي لم يعترف بمجلس النواب، وعمل على عرقلة نشاطه، ونجح من خلال خدعة سياسية في الصخيرات في إنتاج بديل لمجلس النواب فيما عرف بالاتفاق السياسي وسحب صلاحيات المجلس في تشكيل سلطة تنفيذية، وقامت الدول المتنفذة بفرض سلطة عميلة عرفت بحكومة الوفاق الوطني، عملت تلك السلطة الوهمية طيلة خمس سنوات، كان من أهم نتائج عملها نشوب حرب كبيرة عام 2019 أدت من الناحية الواقعية إلى تقسيم البلاد.
في 2020 قامت الدول المتنفذة أيضا فيما عرف بمؤتمرات برلين وباريس وباليرمو بإيطاليا بإطلاق حوار جديد في تونس وجنيف فرض من خلاله حكومة أخرى سميت حكومة الوحدة الوطنية، وقيل وقتها إنها ستنظم الانتخابات خلال 2021 لكن تلك الحكومة تستمر إلى اليوم بدون أي شرعية وطنية ولم تجر الانتخابات حتى بعد انقضاء أربع سنوات على حوار جنيف وتونس.
اليوم يتكرر نفس المشهد وبنفس الشعارات الكاذبة حول تشكيل سلطة تنفيذية واحدة وإنجاز الانتخابات، في تصوري لن تتشكل حكومة جديدة إلا بصعوبة بالغة، وقد تنشب حرب كبيرة ثالثة، خاصة مع التطورات المفاجئة في الساحة السورية وقيام تركيا باستغلال الوضع الدولي الهش بالتنسيق مع الكيان وشن هجوم على الدولة السورية لتحتل عبر عملائها والمرتزقة أجزاء كبيرة منها، ولا ننسى أن تركيا موجودة عسكريا في طرابلس، وقد تستغل الوضع وتحتل أراضي أخرى من ليبيا لضمها إلى مناطق نفوذها، وإذا لم تحدث الحرب بإذن الله فإن شبح التقسيم الرسمي القانوني سيكون سيد الموقف، فالتقسيم موجود على الأرض ما ينقصه إلا التثبيت القانوني والموافقة الأجنبية، ونذكر بأنه من أولويات السياسة الغربية في المنطقة العربية بشكل عام ضرب القوة العسكرية القادرة على حماية البلدان الوطنية، وتقسيم الدول الكبيرة وإشعال فتيل الصراعات الداخلية المستدامة فيها، وهذا ما حدث في العراق ويجري الترتيب له في سوريا ولن تكون ليبيا في منأى عنه خاصة في وجود معطى آخر قد يساعد على التقسيم وهو ما يروج له الغرب بأن تكون ليبيا وطنا بديلا للمهاجرين الأفارقة، كما وعد رئيس وزراء المجر والمسؤولون الإيطاليون مرارا سرا وعلانية.
إن طرح المخاوف من فكرة الوطن البديل للمهاجرين الأفارقة والأجانب إلى أوروبا بشكل عام أمر مبرر وواقعي، فأوروبا تنظر إلى فزان كإقليم واسع قليل السكان كثير الموارد يمكن بدعم أوروبي أن يشكل دولة تحقق لهم عدة أهداف، فمن جانب تتخلص من المهاجرين إليها وتنشئ من جانب آخر حاجزا بشريا يضمن عدم تواصل المشرق العربي بالمغرب، وقد تكون لهذه الدولة ديانة مختلفة تضيف شيئا آخر يعزز الانقسام ويديمه في المنطقة.
ما تسرب من اجتماع ولتون بارك ليس سوى مظاهر خادعة لا تمت إلى ما طرح به في حقيقة الأمر، وفي تصوري لابد أن الاجتماع تناول التغيرات في المنطقة والوجود الروسي في ليبيا وتأثيره على التحولات المهمة في الغرب الأفريقي ضد النفوذ الأوروبي، وبحث مستقبل الدولة الليبية فيه وفقا لما ما ينتج عن الحرب الدولية التي تدور رحاها في أشكال أولية في الشرق الأوسط وأوكرانيا.
اجتماع ولتون بارك ينبغي أن يذكرنا بتفاهمات بيفين وزير خارجية بريطانيا وسافروزا وزير خارجية إيطاليا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية لتقسيم ليبيا بسبب يقظة النخبة الوطنية الليبية رغم قلتها وضعف إمكانياتها.
مع تقديري التام للمتفائلين بأن ما يطرح من مبادرات دولية قد ينهي حقبة حكومة دبيبة الكارثية على ليبيا، أدعوهم إلى التذكر بأن حكومة دبيبة إنما ولدت من مثل هذه الاجتماعات المشبوهة، فالغرب لا يهتم بالأسماء كثيرا وخاصة من عملائه، فهو يبحث عن من يستطيع أن ينفذ المهمة في ظروف أفضل وفي مناخ إعلامي هادئ، وهكذا لا يتورعون في تبديل الأسماء وليس المسميات.
أمام ناظرنا نحن الليبيين كثير من الأمثلة، دبيبة وحكومته لن تكون استثناء من ذلك، قد يأتون باسم آخر لكنه ربما يكون أكثر سوءا وفسادا.
على النخب الوطنية أن تنظر فيما ينبغي أن يكون ولا تضع آمالها على ما يخطط له الغرب في ولتون بارك وغيره، ما يجري أمر شديد الخطورة لا ينبغي أن يواجه بالتحليلات ولا بالتفاؤل والتشاؤم، بل علينا التعامل معه بجدية، ونحن قادرون على ذلك.