مقالات الرأي

“حوار الحضارات”

بقلم/ د. محمود أحمد الديك

بدعوة من مديرة معهد الدراسات والبحوث للبحر المتوسط في إيطاليا، تلقيت دعوة لإلقاء محاضرة في النصف الأول من شهر نوفمبر الجاري عنوانها: “صوت من شمال إفريقيا”.

قسمت المحاضرة إلى جزأين:
الجزء الأول من المحاضرة الأولى، تناول تقديم لمحة عن الأبعاد التاريخية للعلاقات الأفرو-أوربية، وتأثيرها بتطور الأحداث السياسية على الجانبين، كون أن البحر المتوسط كما هي الصحراء الكبرى لا يشكلان عائقاً طبيعياً في تواصل شعوب القارتين، حيث كانت التجارة البحرية وتجارة القوافل تشكلان حركة انتقال السلع والبشر والثقافات عبر العصور، وجمعتهم الجغرافيا والمصالح المشتركة، لكن تغير خطوط تجارة القوافل التي تصل إلى مدن وموانئ شمال إفريقيا، توقفت بفعل تغيير مسار السفن الأوربية نحو شواطئ المحيط غرب إفريقيا، والذي زاد من القطيعة بين القارتين، ظهور حركة الاستعمار الأوروبي الذي اجتاح كل دول القارة الإفريقية، وقد شهدت حركة مقاومة مسلحة وسياسية، وتم استغلال واستنزاف الكثير من مقدرات وموارد شعوب القارة الإفريقية.

وعلى الرغم من حصول معظم الدول الإفريقية على استقلالها السياسي سنة 1960م، لكنها ما زالت مرتهنة باتفاقيات ثنائية اقتصادية، جعلتها مصدراً لمواردها الطبيعية وسوقا مستهلكة للدول الاستعمارية، ولا زالت العديد من الدول الإفريقية، تخضع للتبعية الفكرية والتعليمية ولمناهج المستعمر، ولقد تم إدماجها في تنظيمات سياسية دول (الفرنكوفونية) التابعة لفرنسا، وتنظيم دول (الكومونولت) التابع لبريطانيا.

والملاحظ البون الشاسع بين الدول الأوروبية التي تقدمت على حساب الشعوب الأفريقية، مما جعل الصوت الإفريقي يتساءل هل أوروبا تدرك وتعلم ما الذي يحدث في إفريقيا من تغييرات جذرية منذ عشر سنوات، وهل انكفاء أوروبا على ذاتها، سينسيها التاريخ الذي ارتبط بتاريخ إفريقيا الحديث والمعاصر بكل صنوفه، وهل لأوروبا الحق في أن تعطى ظهرها لإفريقيا، وتتغافل عن حقوق شعوب القارة التي ظلمت كثيراً بفعل سياسات أوروبا؟.
حقيقة إن هذا المسائل وغيرها تؤرق كل إفريقي ويتساءل هل سيعيد الغرب حساباته، ويدرك بل ويتدارك أن مصالحه باتت في خطر؟؟

وعلى الرغم من كل ذلك من المعلوم أن كلا من إفريقيا وأوروبا محتاجتان لبعضهما البعض: ومن بين الثروات التي يعرفها الأوروبيون ودروسها جيداً عن إفريقيا تتلخص في الآتي:
إن بها كميات ضخمة من احتياطات وإنتاج النفط البترول وخاصة الغاز التي تحتاجه أوروبا.

توفر الطاقة النظيفة المتجددة.. حاجة أوروبا لوجود قوى وطاقة بشرية إفريقية من الشباب والتي أعمارهم في العشرينات.
استقرار القارة الإفريقية وخلوها تقريبا من الزلازل والبراكين والعواصف.

تعد إفريقيا مركزا للاستثمار والتجارة العالمية وسوقاً استهلاكية لمنتجات أوروبا.
وفي المقابل فإن إفريقيا تحتاج إلى ثلاثة عناصر تسمح لها بالاستقرار وإحداث تنمية شاملة:
أولا: توفير وتوليد الطاقة المحلية (الكهربائية من مصادر محلية كالأنهار والطاقة الشمسية، والنفط).
ثانيا: نقل العلوم والمعارف الحديثة الأوروبية نحو الجامعات والمراكز البحثية.
ثالثا: تدريب الشباب الإفريقي في القارة على المهن والحرف وتقنيات المعلومات.

إن إعادة الثقة للشعوب الإفريقية تجاه أوروبا ينبغي أن يضع في حسبانه الآتي:
تغيير الخطاب السياسي الغربي الذي يتسم بالنظرة الاستعلائية، وأن هذه الشعوب قاصرة وغير قادرة على تسيير أمورها بنفسها، ولهذا تفرض عليها الوصاية بشكل غير مباشر.

من هنا نرى أنه يجب إعادة قراءة الواقع بكل أبعاده في إفريقيا بنظرة موضوعية، حتى يحدث التقارب وبناء علاقات تتسم بالثقة والمنفعة المشتركة وأن تصبح إفريقيا شريكاً وليس مجرد تابع.
إن النمط السياسي المطبق في الديمقراطية الغربية، قد لا يتماشى تماماً ومرحليا مع العقلية والثقافة الإفريقية السائدة، ويلاحظ أن فرض الشراكة المقترحة من أوروبا لإفريقيا، تشترط تبني النظم الديمقراطية الغربية، وهذا تجاهل للنظم والتركيبات الاجتماعية في إفريقيا والتي من الصعب أن تتجاوزها، ولهذا يجب تحييد هذا المطلب إلى حين.

مسألة حقوق الإنسان التي يتشبث بها الغرب وهي مطلب مظهر سلوكي مهم ومطلوب إنسانيا، ولكن هذه المعايير تطبق على الدول الصغيرة، وبشروط مجحفة، ومع ذلك فالأمر يتطلب وقتا من الحوار والتوعية والثقافة المجتمعية وتطبيق قوانين العدالة الاجتماعية.

وتم التعرض في المحاضرة للأحداث السياسية والصراعات في عدد من دول العالم وأثرها على العلاقات بين إفريقيا وأوروبا، فالحروب اليوم بعد الحرب العالمية الثانية، لم تعد تستهدف الجيوش، بل هدفها تدمير البنى التحية للدول المستهدفة وتشتيت وتهجير شعوبها، ثم فرض الشركات الكبرى لإعادة إعمارها بالشروط المجحفة، ولنا أمثلة في أوكرانيا وغزة والسودان والعراق ولبنان والقائمة كثيرة ….. فعلاً إنها حرب الاقتصاد والهيمنة على الثروات والموارد.

الجزء الثاني من المحاضرة:
يتعلق بتقديم صفحات عن العلاقات التاريخية الليبية الإيطالية:
تناولت فيها ارتباط ليبيا بحكم موقعها الجغرافي بين ضفتي المتوسط ووسط وجنوب الصحراء منذ قرون موغلة في القدم، حيث تأسست على أراضيها حضارات وافدة كالفينيقية والإغريقية والرومانية والحضارة الإسلامية والعثمانية وانتهاءً بالاحتلال الإيطالي.

كان النشاط البحري عبر البحر المتوسط، يمثل حلقة الوصل في تجارة العبور لليبيا، ويتم فيه تبادل السلع والمنتجات من أوروبا وإفريقيا عبر الوسائل البحرية والبرية، وارتبطت ليبيا بعلاقات متميزة مع دول كلا الضفتين، ولكن ظهور حركة الاستعمار المباشر، جعل من ليبيا تقع في دائرة الاحتلال الإيطالي وخاض الشعب الليبي حركة مقاومة لربع قرن أي منذ 1911 وحتى 1931م. صحيح أن هذه المرحلة تمثل صفحات مظلمة في تاريخ العلاقات والتاريخ سيظل يحتفظ بها للأجيال، ولكنا لن تكون عائقاً في بناء علاقات جديدة مبينة على الاحترام والشراكة الندية الحقيقية.

ومع الإعلان المشترك سنة 1998، ثم اتفاقية الصداقة الليبية الإيطالية لسنة 2008م. وأن لليبيا وإيطاليا سيكون لهما الدور الأساسي في تعزيز مؤسسات الاتحاد الإفريقي يقابله الاتحاد الأوربي، وتأسيساً على لقاءات القمة التي جرت منذ سنة 2004، وحتى 2009م في طرابلس وروما بين الكتلتين، فمن المهم تفعيل البرامج والخطط بحجم الاتحادين على المستوى الاقتصادي.

وعندما فتح النقاش عقب المحاضرة، تم طرح مسألة مهمة تتعلق بالهجرة غير الشرعية، وكيف أن ليبيا تتعامل مع هذا الملف، وتم طرح أفكار لتطوير التعاون في المجالات البحثية، وعقد المؤتمرات في العلوم الإنسانية التي يهتم بها هذا المعهد والمؤسسات الليبية وبشكل خاص الدراسات الاقتصادية.

زر الذهاب إلى الأعلى