مقالات الرأي

الحلم العربي

بقلم/ محمد بوخروبة

في كتابه “مدخل إلى تاريخ العالم” يقول المؤرخ جورج سارتون، لقد سبق للعرب أن قادوا العالم في مرحلتين طويلتين من مراحل التقدم الإنساني، الأولى طيلة ألفي سنة على الأقل قبل اليونان، والثانية في العصور الوسطى لمدة تسعة قرون تقريبًا، وليس ثمة ما يمنع العرب أن يقودوا العالم مرة ثالثة في المستقبل القريب أو البعيد.

لقد حلمنا بعد هزيمة السلطنة العثمانية، بقيام أمة عربية واحدة، تجعل بلدان المشرق العربي، في مرحلتها الأولى، وتصورنا أن تحقيق ذلك أمر يسير، طالما جمعتنا أرضية واحدة وسقف واحد، لكن ما تمخضت عنه الحرب العالمية الأولى، ووقوع بلدان المشرق، تحت السيطرتين الفرنسية والبريطانية، جعل الكفاح العربي يخوض معارك الاستقلال، من غير الأرضية الواحدة والسقف الواحد، وانتهت معارك الاستقلال بقيام دول وطنية، بعضها تأسس بحكم التاريخ، وأغلبها وجد كنتيجة لقسمة سايكس بيكو، وقد بات وجود الدولة الوطنية، أمرا مقبولا، ليخلق واقعا هوياتيا جديدا، فنحن في انتمائنا الأكبر، عربا، نتوق إلى قيام أي شكل تدرجي من أشكال الوحدة، لكننا في ذات الوقت ننتمي إلى هويات جمعية أخرى، هي هوياتنا الوطنية، وأصبحت مسؤوليتنا الأولى هي الدفاع عن هذه الأوطان، لكن الوقائع التي أعقبت قيام الكيانات الوطنية قد أثبتت، مرة أخرى، عجزنا عن مواجهة متطلبات النهوض بالتنمية، وحماية الأمن القومي العربي، ولحسن طالعنا، فإن عددا لا بأس به من النخب والحكومات العربية، قد أدرك أهمية الحفاظ على الأمن القومي العربي، فكان توقيع معاهدة الدفاع العربي المشترك، تعبيرا عن هذا الوعي، وفي ظل حالة التشرذم والتفتيت والحروب التي تعاني منها أقطار عربية عديدة، يبدو أن لا مناص للعودة إلى الأصول، إلى نبش تلك الاتفاقيات التي يكتظ بها أرشيف جامعة الدول العربية، ونفض الغبار عنها، وإعادة الاعتبار لها.

إن مناقشة العثرات والإخفاقات التي تعرضت لها مسيرة النهضة العربية، تقتضي خطابًا جديدًا، وقراءة جديدة لأسباب تعثر هذه المسيرة، تتجاوز جلد الذات، وتنطلق من رؤية موضوعية، تضع الهزيمة في سياقات تاريخية صحيحة، وتحاول الكشف عن الأسباب الحقيقية التي عصفت بمشاريع النهضة، وأودت بها، هذه المقدمة تقودنا إلى قراءة مغايرة لأسباب العجز الذي عانت منه أمتنا خلال الخمسة العقود المنصرمة، قراءة ينبغي أن تسهم في تخطي التشرنق في الاستنتاجات النمطية، التي ترجع تعثر مشروع النهضة إلى فشل أداء الحركة القومية في معركة المواجهة مع الكيان الصهيوني، مع أن محطات صراعنا مع الكيان الغاصب لم تكن دائمًا هزائم متكررة، بل شهدت كرًّا وفرًّا، كسبنا معارك عديدة، وخسرنا أخرى. فشل المشروع النهضوي إذًا، ينبغي قراءته بشكل مغاير تمامًا، لما جرى تنميطه، بحيث لا يتم اختزاله في حادثة تاريخية مجتزأة، وبشكل مجرد عن الصيرورة التي حكمت مسار الحركة القومية، منذ انبثاقها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حتى يومنا هذا.

وفي كل الأحوال، ينبغي دائمًا أن نستحضر المحطات المضيئة في صيرورة هذا الكفاح لأن تلك المحطات رصيد للأمة بأسرها، وعامل استنهاض لها أثناء مواجهتها للمخاطر والتحديات والمحن، شرط أن لا تشكل عبئًا على حركة النهوض، ومحاولات الخروج من التشرنق وحالة الانسداد التي تواجهها مشاريع النهضة، وجاءت التجربة الناصرية لاحقًا، مع مطلع الخمسينيات من القرن المنصرم، لتلتحق بغمار هذا الجدل، ولتتضح هويتها، في خضم المعارك التي خاضتها، بدءًا بكسر احتكار مبيعات السلاح، وتأميم قناة السويس، إلى مواجهة العدوان الثلاثي الغاشم عام 1956 وبناء السد العالي، حيث تنبهت لأهمية المشرق العربي، وبالتالي لأهمية الزخم القومي كرافد لها في معركتها الوطنية، وكانت لحظة توجت بقيام أول وحدة بين قطرين عربيين في العصر الحديث، لكن تلك التجربة ووجهت بنكسة الانفصال، وعلى الرغم من مضي خمسين عاما على الإعلان عن تلك التجربة، لم يشهد الوطن العربي تجربة أخرى مماثلة، ولم يعد مقبولًا اعتبار القوى الإمبريالية السبب المباشر في هذا الفشل، خاصة بعد وصول القوى التي ترفع شعارات الوحدة إلى السلطة في عدد من الأقطار العربية، في سوريا والعراق، وهما بمنطق التاريخ العربي، من أهم مراكز الإشعاع الحضاري في الأمة، إضافة إلى وجود نظام وطني في مصر استطاع تحشيد الجماهير من حوله لما يقرب من حقبتين، عدا حضور الأنظمة التي ترفع هذه الشعارات في نهاية الستينيات في الجزائر وليبيا واليمن والسودان، ومع ذلك فشلت كل المحاولات لتحقيق الوحدة.

هكذا يظل السؤال: لماذا فشل مشروع النهضة العربية، وبات يصدمنا عند كل محطة في قراءتنا لحالة الانسداد التاريخي التي واجهها هذا المشروع، ملحًّا في طلب الجواب، لكن المؤكد أن المشروع القومي الوحدوي، في كل اتجاهاته، ارتبط بشحنات عاطفية ووجدانية حركت مشاعر الجماهير العربية في كل مكان، لكنه عجز عن تحويل الحلم إلى حقيقة.

زر الذهاب إلى الأعلى