مقالات الرأي

إلى رحاب الله

بقلم/ سالم أبو خزام

في صباح يوم الخميس الباكر 30 نوفمبر 2023 قد غيب الموت المغفور له الأستاذ الدكتور إبراهيم أبو خزام عن عالمنا نحن إلى رحاب الله، وبذلك تكون سنويته الأولى وعطر ذكراه تأتينا، فندرك أن الموت حق على عباده، فعندما أزِف اليوم الموعود فلا راد لقضاء الله أبدًا.

الأشياء الجميلة لا تبقى طويلًا، وهي إذ تنسل من بين يديك وتغادرك إلى عالم آخر في طريقها إلى دار البقاء، إلى جنات الخلد الفسيحة بإذن الله، لقد عشنا معًا سنوات وأيامًا يصعب وصفها، فقد عمدتها لذة الأخوية النبيلة بكل تفاصيلها ومعانيها.

إبراهيم كان منذ البدء استثناءً مبكرًا، نابغة فائق الذكاء، واتضحت كل تلك الخصال السمحاء المتفردة منذ نعومة أظفاره، اتسم بالحركية في بيت الأسرة وفي أزقة وشوارع القرية وفي الحقول والبساتين وأثناء رعي الأغنام، إذ بدا حريصًا على كل ما يريحها، فسعادته كانت أن يرى ما في عنايته سعيدًا، رافقته منذ البدء وحاولت دائمًا تقليده بشغف تأثرًا به لكونه يكبرني، واعتبرته صديقي وموجهي ورفيقي، بل تحولت إلى تلميذ بمعية أستاذه في كل لحظة عشتها معه، إن ما يزيد الأجواء روعة هو قدرته الفائقة على اختلاق الفكاهات وجعلك تضحك، مسرورًا باستمرار، فأنت لا تمله أبدًا، تفوق في الدراسة بمتابعة والدنا الجادة، فكانت قسوة والدنا تحمل معها سرًا من أسرار النجاح والتفوق!

تجاوز المراحل الأولى من تعليمه وأجبر على البقاء بمدينة براك بعيدًا عن أسرته وهو يافع ليتجاوزها في ثلاث سنوات، وأن والدي وبقسوته اللازمة تابع فلذة كبده بجدية صارمة من أجل مستقبل يشارك فيه ويبنيه وكأنه يراه واضحا أمام ناظريه!

تألقت مداركه بحصوله على الثانوية العامة من ربوع فزان، وشد رحاله إلى الجامعة بكلية الحقوق فازداد بريقه بين أقرانه الشبان واتسعت مداركه بنور يشع على الدنيا كلها، فيشرئب قلب إبراهيم ويسبك بخطى سريعة من ساحات المجد والتألق في ردهات الجامعة ومكتباتها بأنوار الكتب وإشعاعاتها وروعة وسلامة وقوة محاضراتها في رحاب مدرجاتها وأساتذتها العظام، بينهم الأستاذ الدكتور أديب نصور الذي نحت اسمه بقوة في ذاكرة إبراهيم عندما حاز أول شهادة علمية عليا في كلية القانون بعنوان: (نقد الأنظمة النيابية في ضوء دراسة النظرية العالمية الثالثة)، وأظنها فتحت أمامه أبواب المسؤولية، فكانت حقًّا معرفة أخرى، فصعد وتألق نحو المجد حيث تبوأ أمين المؤتمر التعليمي للجامعات، وظهرت وتفتقت قدراته القيادية بشكل واضح حينما التحق بموقع أمين شؤون اللجان الشعبية بمؤتمر الشعب العام، فاحتك بزملاء وقدم ما يستطيع لأجل وطنه وبلاده وشعبه ملاحقًا للجان الشعبية، وموجهًا لها ومتابعًا، ثم تحول إلى موقع الأمين المساعد لمؤتمر الشعب العام، وقد ساعدته موهبته القيادية وفلسفته العميقة وعلمه المتفرد بالقانون على قيادة تشريعية متميزة.

تحول الأستاذ إبراهيم إلى العمل التنفيذي ليصل إلى أمين اللجنة الشعبية للتعليم العالي، ليطل على وطنه من رحاب التعليم وينجح بشكل لافت، غير أن إيفاده لإعداد مهولة من طلاب الدراسات العليا لحصد الشهادات العليا كان من أفضل وأدق ما قدم، إنه إذ خرج من الدواليب الأساسية في الدولة فقد آثر العودة طالبًا متميزًا ومن داخل بلاده لأجل تحضير درجة الدكتوراه في كليته العامرة متأثرًا باحتكاكه السياسي، فجاءت رسالته الرصينة بعنوان (العرب وتوازن القوى)، وأظنها حللت الأوضاع وأشعلت الكشافات أمام أدوات الحكم العربية كافة، لتنير الطرقات وتأخذ بالعقول إلى جادة الصواب لمن أراد!!

أراد الدكتور إبراهيم أبو خزام أن يثبت لبني وطنه قدرة جامعاتنا وكلياتنا على تميزها فكان البرلماني الوزير في مقدمة الطلاب حينئذ ليدلل ويثبت إمكانية النجاح دائمًا، ثم عاد الدكتور إلى ساحة العمل الدبلوماسي سفيرًا لبلاده في بغداد وعميدًا للسلك الدبلوماسي، فدفق على ليبيا من العراق أكفأ المعلمين لتشهد ليبيا نهضة علمية ساهم فيها أبناء الرافدين، ثم حين عاد إلى وطنه عمل بإخلاص رئيسًا لجامعة ناصر الأممية بترهونة، وعاد إلى خندقه الثقافي المحبب إليه فخرج عددًا من الدفعات في طريق نهضة بلاده وشعبه، يضاف إلى ذلك إدارته الحكيمة ليتمم العمل الدبلوماسي ويخطه بأساليب جديدة تنشد قوة الفكر وسلامة الأداء بالمعد الدبلوماسي التابع للخارجية الليبية، ويهدف إلى تعزيز الشهادات العلمية بفنون التدريب والمهنية المتفوقة.

إن الدكتور إبراهيم أبو خزام قد ترك لنا إرثًا لا ينضب من العلوم المتفردة بمختلف المكتبات، إرثًا يحظى باحترام كبير من العلاقات الإنسانية والاجتماعية المتنوعة، وهي متجددة وقديمة متأصلة.

شذرات فقط اقتطفتها من حياة الدكتور إبراهيم أبو خزام، لكنه ترك لنا أساطير تحكى وروايات في كل جانب، وكلها ذاهبة في طريق الخير لمسيرة ظافرة بالجهد والعرق والكفاح، إن إهالة التراب عليه لا تعني إلا غيابًا للجسد، لكن ما ينفع الناس من علوم وسياسة وآداب فإنها باقية لرجل مفكر اتسم بالبساطة وروعة المعشر، إلى جنات الخلد رفيقًا للشهداء والصالحين من بني وطني الحبيب.

زر الذهاب إلى الأعلى