إدارة أزمات أم إدارة تأزيم للوطن؟
بقلم/ محمد عبد القادر
ما نعيشه في هذه الحقبة الزمنية من مآسٍ، واختناقات، وضياع للقيم والثوابت الدينية والخلقية، وما نعانيه من الأمراض النفسية والاجتماعية والهوات بين الأفراد والمستويات الاجتماعية المختلفة، والنهب المنظم والتدمير الممنهج لكل شيءٍ، بل وصل إلى حد المساس بالمرجعية الدينية والاجتماعية والخلقية وارتفاع مستوى التفريط في كل الشؤون، بل يمكننا أن نقول إلى حد التجريف للوطن بكل مقوماته تحت مسميات خادعة، وبإشراف القوى الأجنبية المهيمنة على البلاد، والإدارة بالأزمات وليس إدارة الأزمات بل وصل الحال إلى إدارة أموالنا من قبل الخارج، حيث نجد أن سفراء الدول الغربية يفتشون على المصرف المركزي، ويُدار بإشرافهم، ولا أعتقد أن هناك مفهوم للتبعية أوضح من إدارة كل مقومات الوطن وتعطيل الانتخابات خوفًا من المفاجآت التي يمكن أن تفرزها بظهور شخصيات ليس تحت السيطرة، لذلك تجري التعمية حول الانتخابات بالتعطيل بدهاء.
البلاد تدار بأيدٍ أجنبية مهيمنة، على كل الشؤون الاقتصادية والسياسية والقيمية والمالية والعسكرية في البلاد، حتى أن الحال أغرى قوىً مختلفة لوضع يدها على الشأن الليبي من روسيا إلى الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وتركيا وإيطاليا وحتى مصر والجزائر والسعودية وقطر، بل حتى مؤسسات الدولة قد تم اقتسامها بين هذه الدولة تديرها حسب مصالحها الخاصة، لكنها كلها تتفق حول مسألة واحدة هو اقتسام النفوذ وجني المصالح الذاتية في الدول على حساب الوطن والشعب، هم مختلفون شكلًا لكنهم متضامنون مصلحةً.
الليبيون؛ هم فقط من يقعون خارج الخارطة الفعلية للصراع والتأثير والإدارة للأزمات، بل هم أدواتها ووقودها وحطبها المحترق في المجمل، إلا قلة من الانتهازيين أفرزتهم المرحلة وارتبطوا وارتهنوا بالأجنبي من روسيا إلى الولايات المتحدة إلى حلفائهم الكبار والصغار إلى الدول الطفيلية التي تتغذى على الأزمات بانتهازية مطلقة إلى أصحاب الدور الوظيفي الذي يؤدي دوره مقابل الثمن ويختفي سواء من المافيات الليبية أو الأجنبية مقابل المنافع أو الفتات الذي يترك لهم مقابل صنيعهم الدنيء.
أعتقد جازمًا، إن جاز لي ذلك، أنه لا يختلف أحد على هذا التوصيف، الذي يفرض نفسه في الساحة، شئنا أم أبينا أن ليبيا الآن تمثل بؤرة صراع دولي حاد لأنها أولًا: مهمة استراتيجيًّا وأمنيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا وعلى كل الصعد وبأنها إحدى البوابات الأساسية التي تؤدي إلى أسهل الطرق إلى أفريقيا بعد أن أصبحت ليبيا توصف بأنها الحالة الواهنة والضعيفة، بل المتآكلة التي يمكن أن تستخدم كمنافذ أو ثغرات جيوسياسية واستراتيجية بين القوى الدولية المتصارعة وكذلك الصراع الصامت إلى حد ما بين دول حلف الناتو إن صحت اللغة والذي تقوم الولايات المتحدة بإدارته أو بريطانيا بالوكلة.
كل ما تقدم يفرض طرح سؤالٍ مهم جدًا على الليبيين الذين هم خارج المشهد حتى المنتظمون في منظمات وأحزاب وطنية إما مرتبطة مع قوى الهيمنة المختلفة أو المرتبطة ارتباطًا مصلحيًّا بين القوى أيًّا كان حجمها ودورها أو أحزاب وطنية ضعيفة وغير قادرة على رسم سياسات حزبية مؤثرة وفاعلة على أي مستوى.
إن تشرذم المشهد الليبي يعود إلى جملة من الأسباب التي أدت إلى نتائج متعددة ليس أقلها عدم توفر الحد الأدنى من الإجماع الليبي المفترض للقيام بأي دور وطني وعدم توفر حتى النوايا الحسنة وأي مستوى من مستويات الثقة المتبادلة والتقييم المشترك أو المتقارب أو الخطوط الوطنية التي يمكنها أن ترتقي إلى مستوى المسؤولية الوطنية في حماية الوطن والحفاظ على ثوابته، بل حتى الاتفاق على الحد الأدنى من ثوابته، وأعتقد أن غياب الرؤية الوطنية المشتركة والقيادات الوطنية المدركة للمخاطر التي يتعرض لها الوطن ويعانيها المواطن وغياب المستوى المطلوب من التنسيق والحوار المتواصل بين القيادات الوطنية إن وجدت وتغييب روح المصلحة الذاتية وغلبة روح التشرذم والصراعات الدونية على المصالح والمنافع وغياب الدور الفاعل للقيادات الاجتماعية والقبلية والدينية والتوحد خلف شعار الوطن أولًا ومصلحته وتغليب روح السلم الاجتماعي والقدرة على إدارة حوار وطني جامع لا يغيب فيه طرف والبحث عن قيادات وطنية وليست انتهازية مصلحية ذاتية في مختلف التنظيمات والأحزاب والنوادي السياسية والشخصيات الأكاديمية التي يمكنها أن تؤطر الحوار وتتخمه تفلسفًا وتقنينًا فكريًّا وإجرائيًّا تضبطه روح المسؤولية الوطنية والإخاء المواطني الغرض الأول والأخير الحفاظ على الوطن محررًا والمواطن في وطنه كريمًا وعزيزًا لا مهانًا ولا ذليلًا برؤية وطنية جامعة تجمع ولا تفرق، تسد الثغرات ولا تندمج في مساعي أعداء الوطن من الأجانب بكل مشاربهم ولا الانتهازيين والمفسدين والنفعيين الذين لا دين لهم ولا مسؤولية وطنية لهم.
على مدار التاريخ تمكن الليبيون من إيجاد طريق للالتقاء والتحاور والتفاهم والتحم في مسار واحد وإن اختلفت الاجتهادات، فلنستلهم من تاريخنا ما يمكننا من جسر الهوات وإدراك المخاطر على الوطن والشعب والدين برابطة واحدة يجري العمل على تشرذمها بمختلف الشعارات الجهوية والقبلية والمناطقية والتاريخية التي دفنتها التجارب.
هي دعوة للالتقاء والاجتماع والتوافق وتغليب المصلحة العليا والتقريب بين الآراء وتبادل الثقة وصنع التوافق.. هل نستطيع فعل ذلك! نعم نستطيع وبقوة وبعزم وبثقة وبصدق وبالنوايا الحسنة متى تحررنا من الهيمنة والتبعية.
اللهم اجمع شملنا وشتت أعداءنا ووحِّد كلمتنا واجمع شتاتنا وأنر عقولنا وأنزل الحب بيننا وأعنا على تنظيف قلوبنا.. اللهم آمين.