مرجعية الصراع الفلسطيني
بقلم/ محمد بوخروبة
من أجل تعطيل الفعالية الأممية تعمل شبكة الإعلام الدولي الصهيوني، على اختزال الأحداث العظمى إلى مجرد صور صحفية أو تلفزيونية، منتقاة بخبث، وترفق بكل صورة تعليقا مقتضبا منفصلا عما قبله وعما بعده وعما حوله، فلا مقدمات تمهيدية ولا وقائع معاشة ولا نتائج متوقعة، وبذلك يتحقق تعطيل الذاكرة البشرية والمحاكمة العقلية، ويتحقق تحييد الشعوب والقوى الاجتماعية، ويتحقق إخراج الحدث العظيم من سياقه التاريخي، فلا مجتمعات ولا أوطان ولا سياسة ولا اقتصاد ولا ظالم ولا مظلوم، بل مجرد واقعة منفصلة تشبه حادث سير مروعًا أودى بحياة ركاب حافلة نتيجة خطأ من السائق أو خلل في المحرك أو حفرة في الطريق.
إن من يتابع أداء أجهزة إعلام هذا النظام الربوي الصهيوني العالمي في تغطيتها لأخبار بلادنا العربية المنكوبة، يرى بوضوح هذه المحاولات المستهترة الإجرامية الوحشية، لكنه سوف يصاب بالغثيان عندما يرى إعلام الأقطار المنكوبة بالذات وهو يجاري إعلام المعتدين المجرمين في تقديم الصورة والتعليق بالطرائق الصهيونية ذاتها.
صراعنا مع إسرائيل صراع وجودي، هذه عبارة نسمعها كثيرًا منذ أكثر من نصف قرن، ويبدو أنَّها قد استقرَّت في العقل ولا مجال لتغييرها، ربما تُساق العبارة لتمييز الصراع مع إسرائيل من الصراعات الأخرى الأقل حدَّة أو أهمية، تملك العبارة بالطبع، والرؤية الكامنة خلفها، بعض الوجاهة إذا ما انطلقنا من زاوية الأفكار المؤسِّسة للصهيونية وممارسات إسرائيل منذ تأسيسها في مايو 1948 وإلى اليوم، من حيث تأكيدها هويتها اليهودية، وكونها استعمارًا استيطانيًا إحلاليًا قام على طرد الفلسطينيين من أرضهم، علاوة على أنَّ إسرائيل نفسها تنظر إلى الصراع معنا بوصفه صراعًا وجوديًا.
تنظر إسرائيل إلى الصراع بوصفه صراع وجود، ويشجِّعها على ذلك عناصر القوة المتوافرة بين يديها مقارنةً بضعف الفلسطينيين، والعرب عمومًا، ما يسمح لها بتنفيذ سياساتها من دون تهديد محيطها أو اعتراض جدّيٍّ من المجتمع الدولي، إذ لو وجدت إسرائيل أنَّ الفلسطينيين والعرب عمومًا، قادرون على تهديدها فإنَّها ستكون مجبرة على النظر إلى الصراع بطريقة مختلفة، لن تقدِّم إسرائيل أيَّ تنازلات حقيقية على صعيد قرارات الشرعية الدولية، لأنَّها في موقف عسكري لا يُضطرُّها إلى التنازل، علاوة على دعم أمريكا لها عسكريًا واقتصاديًا، وترى أنَّ بعض العرب سوف يطبِّعون معها من دون أن تتنازل عن أي شيء ذي قيمة، لكنَّ نظرة إسرائيل هذه إلى الصراع تعكس من جانب آخر خوفًا متأصِّلًا كونها موجودة في وسط لا يقبلها، ولا مجال لأن تكون علاقتها به طبيعية حتى لو طبَّعت معها السلطات العربية كلها، وهذا الخوف يدفعها دائمًا إلى محاولة شدِّ أزر بنيتها الداخلية لمواجهة ما تراه تهديدًا وجوديًا.
نشهد اليوم تزايدًا ملموسًا في التضامن الإنساني العالمي مع الفلسطينيين إزاء عنصرية إسرائيل وعنفها، على أرضية تأييد حقهم المشروع في تقرير المصير، وضرورة حمايتهم ومحاسبة إسرائيل على جرائمها، هذا التضامن العالمي مع الفلسطينيين يأتي على قاعدة الإنسانية ومناهضة الحركات العنصرية والدفاع عن حقوق الإنسان وحق تقرير المصير والمحاسبة على جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، ولا يأتي، ولا يمكن أن يأتي، على قاعدة تديين الصراع أو الصراع الوجودي أو الحرب الدائمة.
إنَّ العنف جزءٌ من الصراع السياسي أو لحظة من لحظاته، لكنَّ الصراع السياسي لا يُختزل بالعنف والسلاح، ولا تصحُّ إدارته على قاعدة الحرب الدائمة، إنه أوسع مدى من لحظات المواجهة العسكرية، وأكثر عمقًا في التأثير في الصراع على المستوى الاستراتيجي لأنه يتضمن أبعادًا ومستويات عديدة ذات أهمية مركزية، فالأبعاد الحضارية والثقافية والعلمية والاقتصادية والدبلوماسية كلها تندرج في إطار مستلزمات خوض الصراع السياسي إذا أردنا حلَّ الصراع لمصلحتنا على المدى البعيد.