الإنصاف المجرد والإنصاف السياسي
بقلم/ عبدالمجيد قاسم
يحتاج الإنصاف، الذي هو إعطاء الحق، كما في لسان العرب، إلى تغليب النظرة الموضوعية على النظرة الذاتية قدر الإمكان، فالعالم أو الناقد أيًّا كانت رجاحة عقله، ومهما بلغت درجة تمتعه بالحيادية، لابد للنظرة الذاتية من أن يكون لها تأثيرها لديه في الحكم على الأمور.
والمقصود بالنظرة الذاتية ما ينطبع في الذهن عن الشيء مما هو خارج عن ماهية الشيء، أي ما ينطبع من تصورٍ بتأثير العقيدة، أو العرق، أو التجربة، أو غير ذلك من الأمور التي تشكل عقلية الإنسان ووعيه، كونه مخلوقًا متعلمًا، يكتسب المعرفة اكتسابًا، قال الله تعالى: (وَاللَّهُ أَخرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَـاتكُم لَا تعلمون شيئا وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون).
وعلى ذلك فإن الحكم على الشيء بإنصاف يتوقف على مدى استطاعة الناقد التخلص من نظرته الذاتية، وتغليب النظرة الموضوعية، وقد يكون قبول النقد متوقفًا على معرفة خلفية الناقد، هذه الخلفية التي قد تكون مذهبًا في العقيدة، أو موقفًا سياسيًا، أو انتماءً عرقيًا، أو غير ذلك، ويصل الأمر إلى حد رفض الحكم في الحالين، حال المدح وحال القدح، لأنه في الحال الأخيرة قد يُتهم الناقد بالتحامل إذا كان الخلاف كبيرًا والهوة شاسعة، وفي حال المدح يُخشى على الناقد حرصه على إبعاد التهمة، ففي كلتا الحالين تكون الشبهة حاضرة، وهي تغلب النظرة الذاتية على الموضوعية، مما يعني عدم الوثوق في الحكم.
وقد لاحظ هذا علماء الشريعة الإسلامية، فجعلوا الشبهة قرينةً على مجافاة الإنصاف، فنجد مثلا الحافظ ابن حجر العسقلاني صاحب كتاب فتح الباري يقول: “ومما ينبغي، أن يُتوقف في قبول قول – في الجَرح – من كان بينه وبين من جرحه عداوةٌ سببها الاختلاف في الاعتقاد”.
فإذا كان الأمر كذلك في التعامل مع آراء العلماء في مسائل الشرع، فهو في السياسة أحرى أن يراعى بذات الكيفية، ذلك أن السياسيين ما يفتؤون في أن يشنعوا على من يخالفهم في الاتجاه، همهم في ذلك الانتصار لحزبهم وسحب البساط من تحت أقدام غرمائهم السياسيين، والأمر في السياسة يكون مقصودًا لذاته، فاللعبة السياسية هي كيف توقع بخصمك وتفوز أنت بتأييد الناس! ولا غرو في ذلك لأن العقلية السياسية براغماتيةٌ بطبعها، لا يعرف الإنصاف إليها سبيلًا، فإذا صادف ووجد من السياسيين من يمدح خصمه، فليس ذلك سوى إشارةٍ إلى تحالفٍ مرتقبٍ، أو إعلان هدنةٍ لترتيب الأوراق، فهو ليس رجوعًا إلى الحق، لأن الحق السياسي يختلف عن غيره، فالحق السياسي هو رؤية الحزب أو التكتل ليس إلا، وهو الذي تكون التضحية من أجله شهادةً، والسعي إلى ترسيخه نضالًا، والإيمان به وطنيةً، وما عداه يكون خيانةً وتبعيةً ورجعية، وغير ذلك من الأوصاف التي على ذات الشاكلة، لذا يتعدد الحق، ويتعدد بتعدده المناضلون والشهداء، وهم على طرفي نقيض.
لذا، فالتهمة بمجافاة الإنصاف هي الأصل في بحر السياسة حتى يثبت العكس، وما يقدمه السياسيون من آراء، وما يبثونه من أفكار، تجدهم يخالفونه في الخفاء، ومع الزمن يصدحون بما يخالفه، مستغلين قصر الذاكرة المجتمعية، فيحسب المتابع أن هؤلاء لديهم نوعٌ من انفصام الشخصية، وما هم كذلك، بل هم يمارسون لعبة السياسة، حيث يكون الخداع جزءًا منها، ويكون الكذب أداةً من أدواتها.