سلطات “العزابة”!!
بقلم/ مصطفى الزائدي
”العزابة” لا يعني فقط غير المتزوجين، بل هو مصطلح يطلق على من يترك أسرته ويقيم أينما يعمل لظروف المسافات أو لطبيعة العمل، وفي البادية يطلق على من يتفرغون فترات للحرث والحصاد أو جمع التمور والزيتون.
ما دفعني إلى تذكر “العزابة” أن أغلب المسؤولين في ليبيا الآن من الوزراء والنواب وأعضاء مجلس الدولة والرئاسي وأعضاء لجان الحوار الدائمين والمؤقتين وأعضاء المجلس الانتقالي المعلومين والسريين ومن تصدر المشهد أيام أكذوبة ثورة الشباب ودعايات الأبراج ومرسيدس توصيل الخبز الساخن والدولارات التي تملأ الجيوب، ورؤساء المؤسسات والوكلاء والمدراء في الدوائر الحكومية والمؤسسات العامة والشركات والمصارف وكذلك قادة المجموعات المسلحة ومعاونيهم وبعض الضباط في الجيش والأمن والمرموقين من أثرياء التمشيط والغنائم والاعتمادات والعقود الوهمية، وكتحصيل حاصل ثوار الدبل شفرة حملة الجنسيات الأجنبية، كل أولئك تقيم أسرهم بكاملها بالخارج، موزعين بين تركيا ومصر والمغرب وإسبانيا وألمانيا، والأكثر أهمية منهم في إيطاليا وفرنسا وبريطانيا وأمريكا، يمارسون مهامهم كعزاب يقيمون بالاستراحات، وبعضهم حولوا المؤسسات التي يعملون بها إلى ما يشبه “أقسامًا داخلية” بمطاعمها ومناماتها.
يبررون ذلك صراحة وبكل وضوح برغبتهم في إتاحة الفرصة لأبنائهم للعيش والتعلم في بلدان مستقرة، وبعض الحاذقين منهم يرجع ذلك لرغبتهم في التفرغ للعمل بعيدًا عن دوشة الأسر لمزيد من العطاء!
هذا ليس اكتشافًا سريًّا مني، ولا هو معلومات حصرية لا أمتلك قدرة لا على جمعها فما بالك متابعتها والتحقق منها، بل هو أمر شائع ومعلن ولا يمكن إخفاؤه، ولإضافة بيت من الشعر فإن أغلبهم يقيمون على حساب الدولة، سواء من خلال توظيفهم شكليًّا في السفارات والقنصليات أم من خلال تحمل التكلفة عن طريق المؤسسات التي يعملون بها، وأيضًا يكلفون موظفين من أقربائهم أو أتباعهم لرعاية أسرهم وتوفير الخدمات لها.
هذه الظاهرة التي أضعها في قمة هرم الفساد والإفساد المستدام، تعكس أمرين الأول، اعتراف صريح وعملي من تلك الشخوص النافذة بأن الوضع في ليبيا لا يسمح لليبيين بأن يعيشوا بحرية، وأن يعملوا في أمن وسلام، وأن النظام التعليمي فاشل لم يلب متطلبات تعليم حقيقي متطور يواكب التطورات المستمرة والمتراكمة يمكن أن يعتمد عليه في بناء أجيال متعلمة قادرة على المنافسة المحلية والخارجية.
وبالرغم من قناعتي أن أولئك يخدعون أنفسهم، فأبناؤهم لن يتعلموا في الدول التي يقيمون بها وفق معايير ومتطلبات التعليم بها، بل يتوجهون إلى مؤسسات تعليمية تجارية، ويركنون إلى شراء الشهادات بدل الجد والاجتهاد، وهذا ليس تخمينًا مني فقط، بل ملاحظة نجدها للأسف عند النظر في الطلاب الليبيين الدارسين بالخارج بمن فيهم من أوفدوا بسبب تفوقهم ونتيجة حسبهم وواسطتهم.
الأمر الثاني، أنه يكشف ادعاءات بناء دولة ديمقراطية تقوم على المساواة وتمارس الشفافية والحكم الرشيد، ويبين أن من جاءوا على ظهر دبابات وطائرات الناتو، ومستمرون في العبث بليبيا بحماية وتأمين القوات الأجنبية من قوات نظامية أو شبه نظامية ومرتزقة لا يعملون إلا وفقًا لمصالحهم الشخصية البسيطة أحيانًا ولتنفيذ ما يكلفون به من الدول النافذة التي تسيطر على ليبيا فعليًّا، والتي تجري هذه العمليات ربما بتحريض منها أو على الأقل أمام أعينها.
السؤال هل يمكن أن نثق في هؤلاء لإعادة بناء دولة وإخراج البلاد من محنتها وهم يفكرون فقط في جيوبهم؟ الإجابة بالنفي القاطع، فالخطوة الأولى لبناء الدول تفرض أن يتحلى من يتحمل المسؤولية بالصدق والإخلاص والجدية، ولن أضيف الوطنية والزهد ونظافة اليد والنزاهة والتواضع، لأننا قد ننقص القائمة إلى درجة كبيرة! وهذا لن يتأتى إلا بتمكين الشعب من المشاركة الفاعلة والجادة في إدارة الدولة بالآلية التي يتفق عليه، وهذه الحالة مرهونة بجهود النخبة الليبية العسكرية والمدنية ونضالها لتحرير الإرادة الوطنية وفتح الطريق أمام الشعب لبناء دولة للجميع، حيث يتساوى الليبيون في الحقوق قبل الواجبات وتنتهي ظاهرة المرموقين الذين يستحوذون على كل شيء ويقضي نهائيًّا على بوادر الانقسام الطبقي الآخذ في النمو.