ملفات وتقارير

رحلة المنفيين بلا عودة

26 أكتوبر رمزٌ لتضحيات أجيال من الليبيين الذين واجهوا الاحتلال الإيطالي فتم نفيهم.. وتذكيرٌ بضرورة إحياء الذاكرة الوطنية وربط الأجيال الجديدة بتاريخ بلادهم

إعداد – منيرة الشريف:
جميل جدًّا أن تكون هناك صفحة مؤلمة في تاريخنا حتى نعلن في يوم من الأيام الحداد حزنًا وألمًا وتعبيرًا عن أن الثأر لا تزال ناره مقدسة تلتهب وتلهب مشاعرنا وفي أعماق وجداننا، فالأشرار الإمبرياليون هم الذين حولوا أيام شعوب كثيرة من سعادة وهناء، إلى حزن وشقاء، ومن بينها الشعب العربي الليبي، الذي ليس وحده من اكتوى بنار الاستعمار البغيض، فهو من جملة شعوب استهدفتها حملات الشر من أوروبا.
ووسط تجاهل رسمي متعمد وعودة الفاشيستي المطرود بالأمس، يحيي الشعب الليبي هذه الأيام الذكرى الثالثة عشرة بعد المائة لأكبر حملة نفي حاقدة قامت بها الفاشية الإيطالية لآلاف الليبيين، وقرر الليبيون اعتبار هذه المناسبة يوم حداد في كامل التراب الليبي.
إن استعمار إيطاليا لليبيا عام 1911، لم يأت من فراغ، ولا هو نزوة شيطانية لدى إيطاليا، فالمسألة متكررة، وعمر الاستعمار منذ أكثر من 2500 سنة.
ولم تكتف إيطاليا باغتصاب الأراضي الليبية، بل تعدت أفعالها إلى أبعد من ذلك، فبعد الخسائر الفادحة التي تلقتها عقب معركة شارع الشط في الثالث والعشرين من شهر أكتوبر عام 1911، قامت بتنفيذ أقصى التدابير ضد الأهالي المدنيين في محاولة لتطويق حركة المقاومة الشعبية، ومن هذه التدابير صدور قرار بنفي عدد كبير من أهالي طرابلس وضواحيها إلى إيطاليا، وتمت أول عملية نفي للشعب الليبي، في السادس والعشرين من أكتوبر 1911، وضمت 595 مواطنًا ليبيًّا أُخذوا على متن سفن أبحرت بهم إلى إيطاليا، لا يزال مصير أكثرهم مجهولًا حتى الآن، حيث تم توزيعهم على 26 سجنًا، أشهرها: سجون بونزا، فافينانا، أوستيكا، تريميتي، ساليرنو، صقلية، لابريزي، فوليس، نوتو غورغونا، مسينا، سيراكوزا.
وفي الواقع إن عمليات التهجير والنفي الجماعي إلى السجون الإيطالية، قد استمرت وبشكل متواصل طيلة أيام الحرب، وخصوصًا بعد المعارك التي كان يخسرها العدو ويفقد فيها أعدادًا كبيرة من جنوده ومعداته، مثل معركة القرضابية التي جرت في الثامن والعشرين من أبريل 1915، حيث قامت سلطات الاحتلال عقب هذه المعركة بنفي ما يزيد على 1500 مواطن، وذلك كإجراء انتقامي لهزيمتهم في تلك المعركة.
إن هؤلاء المنفيين تقرر إبعادهم وفق إجراءات ظالمة وتعسفية، وأُخرجوا من ديارهم بغير حق، ليس إلا لأنهم مارسوا حقهم الطبيعي في الدفاع عن أنفسهم ومقاومة العدوان والتسلط على بلادهم، ثم سيقوا بوحشية على ظهور السفن، وعوملوا فيها معاملة لا إنسانية، أدت إلى موت عدد منهم قبل وصولهم، كما أن سوء الحالة الصحية وظروف المعيشة القاسية داخل السجون، أدى إلى تفشي أمراض فتاكة بينهم كالسل والتيفود، أودت بحياة العديد منهم.


أسباب النفي
هناك عدة أسباب جعلت الاستعمار الإيطالي يلجأ إلى سياسة النفي، ومنها ذهول القادة الإيطاليين من قوة وشدة الضربات التي قام المجاهدون بتوجيهها لقواتهم ومحاولة القضاء على المجاهدين وإخضاعهم بهدف السيطرة على هذه البلاد دون مقاومة وبأقل خسائر في صفوف القوات الغازية والتخلص من المعارضين للسلطات الإيطالية، وتفريغ البلاد -ليبيا- من أبنائها المؤثرين إيجابيًا في حركة المقاومة، وكانت عمليات النفي تتم نتيجة لفشل وهزيمة الإيطاليين في بعض المعارك، مثل: شارع الشط، الهانئ، القرضابية، فبعد أية هزيمة قوية، يلجأ الإيطاليون إلى الانتقام من الأهالي وإلقاء القبض على كل من يقع بين أيديهم.
لقد أخذ الجنود الإيطاليون يلقون القبض على كل من يشك في أمره، كأن يشك في حمله السلاح، أو أنه يعارض التدخل العسكري الإيطالي في البلاد، أو أنه يشكل خطرًا، على أمن الدولة الإيطالية في ليبيا، وجاءت عمليات النفي إلى إيطاليا، لإرضاء السلطات العليا بروما، ولإقناع عموم أبناء الشعب الإيطالي، بأن القوات الإيطالية بطرابلس، لديها القدرة على تحقيق النجاح، في احتلال البلاد الليبية.
كانت عمليات النفي تنفذ وفقًا لسياسة إيطالية، تهدف إلى إفراغ البلاد من أبنائها، وتمزيق وحدة المجتمع العربي في ليبيا، وهذا الإجراء اعتقد الإيطاليون أنه سيكون له رد فعل سلبي على حركة المقاومة الوطنية ضدهم، وبعد قيام الحرب العالمية الأولى، واشتراك إيطاليا بها في مايو سنة 1915م ظهرت الحاجة إلى الأيدي العاملة، لذلك قرر ساسة إيطاليا ترحيل بعض الليبيين إلى هناك بغرض الاستفادة منهم، أو المناوبة عنهم في بعض الخدمات مثل الزراعة، والصناعات الخفيفة، تعبيد الطرق، حراسة الأماكن العامة، وغيرها.
لقد كانت عمليات النفي في كثير من الأحيان، وخصوصًا في المراحل الأولى، تتم دون التأكد من هوية من يراد نفيه، لأنه كلما تم القبض على أية مجموعة، يتم حشرها في السفن، وترحل إلى المنافي بالجزر الإيطالية، ويعترف المكتب السياسي بوزارة المستعمرات، بخصوص هذه النقطة بأنه لا توجد بيانات وافية عن عمليات النفي الجماعي، التي قامت بها السلطات الإيطالية بطرابلس، كما تشير نفس الوزارة إلى أن المنفيين قد وصلوا إلى أماكن منفاهم، بدون أن تكون لديهم بطاقات تعريف، وأن العديد منهم توفي أثناء السفر، وقد ألقيت جثثهم في البحر، لقد كانت بعض الجزر لا تصلح لشيء من الحياة بسبب ضآلة حجمها، وفقدانها جميع مقومات الحياة، مثل جزيرة تراميتى، سوى لنفى من أرادت لهم سلطات روما الوصول إلى نهاية حتفهم السريع، وهو ما كان يدور بذهن الذين رأوا في هذه الجزر، خير مكان للوصول إلى مثل هذه النتيجة، عندما اختاروها مكانًا لنفي العرب.
وخلال مرحلة الاحتلال الفاشي لليبيا، شهدت الطائفة الكاثوليكيَّة نموًّا هائلًا حيث تشكلت من المستوطنين الطليان والمالطيين، فتم بناء العديد من الكنائس الجديدة لصالح الجالية الإيطالية المتنامية، في أواخر عشرينيات القرن العشرين، تم بناء الكاتدرائيات الكاثوليكية في طرابلس وبنغازي، وكانت كاتدرائية بنغازي الأكبر في شمال إفريقيا. تليها كاتدرائية طرابلس التي تم تحويلها بعد طردهم سنة 1970 إلى مسجد جمال عبدالناصر.


من ذاكرة التاريخ
في ذكرى المنفيين كتب الدكتور محمود أحمد الديك أستاذ تاريخ العلاقات الدولية بجامعة طرابلس، قائلا:
لم يعد التاريخ الإنساني مجرد حكايات وأساطير تروى للعظة أو لتعظيم الملوك والحكام، بل صار وعاء وذاكرة أمة في كل أبعادها الحضارية، وبكل قيمها الأخلاقية ومآسيها، وإن أحياء واستحضار بعض الأحداث والتذكير بها يدخل في إطار ربط الماضي بالحاضر، حفاظًا على الذاكرة الجمعية لكونها جزءًا من مكونات الحياة لتاريخ الإنسان، حتى وإن كانت قاسية ومؤلمة على النفس وإن مضى عليها حين من الدهر، وإلا ما معنى دراسة التاريخ وتأريخ الأحداث والحوادث، فهي ماض، لكنه متحرك وحيٌّ في ذهنية الأجيال المتعاقبة. فتاريخ ليبيا المعاصر حافل بصفحات من البطولات لشعب قاوم أكبر طغاة الأرض وأشرس استعمار عرفه التاريخ المعاصر، فالمعادلة لم تكن متكافئة، شعب ليبيا كان مسالمًا يعيش في تناغم وعلاقات طيبة مع كل شعوب دول الجوار، ولم يكن يوما عدوانيًّا، ولم يسجل عليه أنه اعتدى على أحد، ولم يهتم بامتلاك قوات عسكرية، لكون ليبيا تمثل موقعًا جغرافيًّا متميزًا تستقبل العلوم والمعارف والحراك البشري ومحور التجارة البرية والبحرية في فضاء المتوسط وإفريقيا، لكن هذه القيم اصطدمت بمواجهة غير متوقعة من دولة مجاورة وهي إيطاليا التي كانت تمثل النهضة والفنون والآداب الأوروبية، تحولت فجأة إلى غول ووحش كاسح حاول غرس أنيابه في فريسة كان يظن أنها وجبة سهلة وشهية، فإذا بها تتحول إلى شوك وزمهرير يلتظى في بطون الغزاة طيلة ربع قرن.
الشعب كان شبه أعزل من السلاح التقليدي، لكن إيمانه بالوطن وحريته أقوى من المدافع والبوارج والطائرات، فكانت الحرب سجالًا انتصارات وانكسارات من الجانبين، وحين عجزت القوة الطاغية الجبارة على إخضاع المقاومة عسكريًّا، اخترعت بدعة ضالة لم يعهدها تاريخ الحروب الاستعمارية، وهي الطرد والإبعاد والنفي الجماعي، وهذه المرة ليس لرجال المقاومة الذين استعصوا عليها، بل تناولت فئات من الناس (كبار السن، أطفال، نساء، مرضى) لا فرق، فعقب كل هزيمة في معركة يتم اكتساح المدن والقرى والنجوع للقبض على من تبقى في الديار لا حول لهم ولا قوة، يتم حشرهم ويساقون كالقطيع نحو السفن التجارية ويرحَّلون قسرًا في رحلة كلها عذاب لجزر في إيطاليا بلغت ست وعشرين جزيرة، مهجورة من السكان، وتحولت إلى سجون غير متوفر فيها الماء، فهي تمثل مقابر جماعية.
كانت هذه الجزر تستقبل زرافات من الليبيين البؤساء ضحايا حرب غشوم ظالمة، فكانت البداية في 26 من شهر أكتوبر 1911، عقب معركة الهاني الوطنية، ثم استمرت عمليات الترحيل حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، وكان القصد من هذه العملية الجماعية، أولها الضغط على رجال المقاومة لكي يستسلموا، لكن الطغاة خاب مساعهم، وقطع الصلة بين الأهالي وقهر الناس نفسيًّا، والهدف الثاني هو ترحيل أكبر عدد من الليبيين المدنيين، ليلقوا مصير الموت البطيء في جزر حيث لا ماء ولا غذاء ولا دواء، وليس لهم سوى أمواج البحر التي تحصد أرواحهم ليكونوا طعاما للحوت، وتفريغ أكبر عدد من السكان ليحلَّ محلهم المستوطنون الذين يتم جلبهم من إيطاليا ليحتلوا الأراضي الزراعية.
نعم هي مأساة إنسانية لا تقابلها سوى ظاهرة المعتقلات الفاشية الجماعية التي هي الأخرى قضت على عدة آلاف من الأهالي العزل. إن إحياء ذكرى المنفيين لا علاقة لها بنظام سياسي، بل هي ذكرى أليمة لكل الليبيين تستحضرها الأجيال وتترحم على الأجداد، الذين كانوا ضحايا ثمنًا للحرية التي ننعم بها نحن اليوم، فمن الواجب التذكير بها، وهذا حق من حقوقها التاريخية، فإذا كانت إيطاليا المعتدية بالأمس تفتخر اليوم بمن مات من جنودها على التراب الليبي وتعتبرهم شهداء حسب مفهومها وزعمها، وتعلق أسماءهم على الواجهات، فكيف بنا المعتدى عليه، ألا نحيي ونستحضر مثل هذا اليوم كحدث وقع، ونعلن الحداد حتى لا يمحى من الذاكرة، وأن نزور مقابر شهدائنا في الجزر الإيطالية وتقام الدراسات والورش البحثية من الطرفين.
وهذا لا يعني أننا نكن العداوة للجارة إيطاليا اليوم، بل نفتح باب التعاون والتبادل التجاري والثقافي والعلمي بعد أن أقفلنا صفحة الاستعمار وحصول الليبيين على اعتذار غير مسبوق سنة 2008م، ولكن تظل أحداث التاريخ باقية ما بقي هذا الشعب على وجه الأرض.

الاستعمار الإيطالي في ليبيا
كان الغزو الإيطالي دمويًّا وإباديًّا، إذ اعتقل الجيش الإيطالي ثلثي سكان شرق ليبيا في معسكرات الاعتقال وقتلوا ما لا يقل عن 40 ألفًا لهزيمة المجاهدين. كما قصف مدينة الكُفرة بالغاز السام، وبنى سياجًا من الأسلاك الشائكة امتد من الساحل حتى واحة الجغبوب لإيقاف الدعم والتعزيزات القادمة من مصر.
وفي غير مناطق الحرب، جعلت الإدارة الإيطالية كل الأراضي غير المزروعة مشاعًا عامًا متاحًا للاستيطان الأجنبي، وشمل ذلك الأراضي التي كان يرعى السكان فيها ماشيتهم، فمات معظمها، لكن أعداد المستوطنين لم تصل إلى ما كان متوقعًا حتى بداية الحرب العالمية الثانية. كما لم يوفر النظام الاستعماري الإيطالي التعليم لليبيين.
وتختلف المصادر في الإحصاءات التي توضح حجم الكارثة الديمغرافية التي حلَّت بالليبيين: فقد قلَّ عددهم من 1.4 مليون عام 1907 إلى 1.2 مليون عام 1912، ثم إلى 825 ألفًا عام 1933 وفقًا لأحد المصادر. ويذهب مصدر آخر إلى فقدان ثلث الذكور البالغين بين عامي 1922 و1931. ويقدِّر مصدر ثالث أن ما يقرب من نصف سكان ليبيا قضوا نحبهم في الفترة بين عامي 1911 و1933.


إيطاليا تعتذر رسميًّا للشعب الليبي
في سابقة تاريخية لم تحدث من قبل أقرت إيطاليا عبر رئيس وزرائها سيلفيو برلسكوني في 30 أغسطس 2008 بالأضرار والمسؤولية الأخلاقية التي لحقت بالشعب الليبي أثناء فترة الاستعمار الإيطالي، وتم توقيع معاهدة الصداقة والشراكة والتعاون بين ليبيا وإيطاليا، وقال برلسكوني إن المعاهدة هي اعتراف أخلاقي بالأضرار التي لحقت بليبيا من قبل إيطاليا خلال فترة الحكم الاستعماري، مكررا أسفه وأسف الشعب الإيطالي.
وفي مارس 2009 وأثناء زيارة أخرى لليبيا، عبر برلسكوني عن ارتياح إيطاليا لتصديق ليبيا على المعاهدة مطالبا الشعب الليبي بالصفح عن حقبة الاستعمار الإيطالي لليبيا، مجددا الاعتذار، وتنص الاتفاقية بين ما تنص عليه التزام إيطاليا بتقديم تعويض مالي يناهز الربع مليار دولار سنويا على مدى عشرين عاما، كما ستقوم ببناء مستشفيات لعلاج الذين تأذوا من مخلفات الاستعمار وتحديدا الألغام كما تتعهد إيطاليا بالتعاون في الكشف عن حقول الألغام المزروعة في ليبيا، كما ستقوم إيطاليا بإعادة القطع الأثرية والمخطوطات والكتب التي تم تهريبها إلى إيطاليا خلال حقبة الاستعمار، وفي هذا الشأن أعادت إيطاليا في يوم توقيع الاتفاقية تمثالا قديما لفينوس آلهة الجمال هو تمثال «فينوس قورينا» تم أخذه إلى روما خلال الحكم الاستعماري. وأخذت القوات الإيطالية «فينوس قورينا»، وهو تمثال بدون رأس، من بلدة شحات المستوطنة الإغريقية القديمة في ليبيا.
وفي الجانب الثقافي ستمنح روما بشكل سنوي منحًا جامعية للطلبة الليبيين الذين يرغبون بممارسة دراساتهم في إيطاليا، وسيتم إعادة مرتبات التقاعد للجنود الليبيين الذين حاربوا في الجيش الإيطالي.
تم توقيع الاتفاقية في قـصر كان يومًا مقرًّا للحاكم الإيطالي في بنغازي إبان فترة الاستعمار، وتم اعتبار يوم 30 أغسطس من كل عام مناسبة للاحتفال بـيوم الصداقة الليبية الإيطالية.


هل هناك ليبيون غيرنا؟
لعله السؤال الجدير بالطرح قبل 55 عامًا عندما لم تكن ليبيا لليبيين، فقد كانت للإيطاليين والإنجليز والأمريكان وحتى الهولنديين.
ليبيا خاضت معركة الإجلاء وسجلت الانتصار تلو الانتصار، وطرحت مسألة النفي في ذكرى استشهاد شيخ الشهداء، ولم تتوقف الجهود حتى اعترفت إيطاليا بمسؤوليتها عن فترة استعمارها لليبيا، وأعلنت اعتذارها للشعب الليبي عن تلك الحقبة الاستعمارية وبحقه في التعويض عن الأضرار الفادحة التي بلغت بأبنائه وأرضه، ومعرفة مصير المنفيين الذين لم يعودوا، وظروف وفاة من مات منهم وتحديد أماكنهم واستعادة رفاتهم إلى أرض الوطن، وتمكين الأحياء منهم أو أسرهم من العودة إلى ليبيا، وأيضا تعويض الأحياء منهم وأسر من مات منهم عن كافة الأضرار التي لحقت بهم.
اليوم وبعد ثلاثة عشر عامًا يواجه الشعب الليبي ذات المصير الذي واجهوه سنة 1911، حيث هجر مئات الآلاف من الليبيين خارج الوطن، كما نزح الكثير منهم إلى مناطق أخرى، بعضهم يتوسد العراء، وفي ظلِّ هذا المشهد المعتم الكئيب تتطلَّع أنظار الليبيين الشرفاء إلى بارقة أمل يرون فيها مخرجًا وحيدًا لهم من الفوضى المطلقة التي يعيشون فيها.
الليبيون يدركون جيِّدًا أنهم قادرون على العودة بالبلاد إلى مصاف الدول المستقرَّة التي تسعى إلى التقدُّم، واسترداد سيادتها المجروحة، ويعيدون للبلاد سيرتها الأولى، رغم تخاذل الحكومات الليبية المتعاقبة منذ 2011، وتسليمها لأرزاق الشعب الليبي بتوقيع صفقات مشبوهة تفتح أبواب عودة الاستعمار مقابل مصالح شخصية ضيقة.
إن هذه الصفحات السوداء، وهذا المسلسل الدامي ما زال مستمرًّا حتى يومنا هذا، فذاكرة الشعوب ليست خاملة، بل دائمًا حية وحاضرة ونقية، فنحن أمام صفحة فيها حقائق مرعبة، فيها معاملة شيطانية عاملت بها إيطاليا ليبيا عندما كانت قوية وليبيا تحت سيطرتها، واشتركت تركيا في تسليم بلادنا لإيطاليا حتى تتمكن من ارتكاب هذه الفظائع في معاهدة لوزان عندما قامت تركيا بتسليم ليبيا لإيطاليا بدون وجه حق، وتركتنا أمام زحف الطليان بدون سلاح، فتركيا مسؤولة عن تسليم ليبيا لإيطاليا حتى تعرض الشعب الليبي لهذه الإبادة.
فيوم السادس والعشرين من أكتوبر من كل عام سيبقى حاضرًا في ذاكرة الشعب الليبي وفي ذاكرة الوطن العربي كله، وذاكرة الشعوب المتطلعة إلى غد بلا أحقاد، سيبقى يومًا حاضرًا في ذاكرة كلٍّ منا مجللًا بالسواد، مشحونًا بالحزن على أجدادنا وآبائنا، وإنه إلى حد الآن لا نعلم كيف كانت نهايتهم ونهاية أولادهم وأحفادهم؟ إننا ما زلنا نطالب بمعرفة تلك النهاية المأساوية لآلاف الليبيين، أين حتى قبورهم؟
يوم يذكرنا بصفحة سوداء خطتها إيطاليا الفاشية بارتكابها أبشع جرم تاريخي، ينبئ بحقبة استعمارية صليبية تستهدف وطننا كله واحتلال أرضنا وإبادة شعبنا برمته.

زر الذهاب إلى الأعلى