مقالات الرأي

لماذا يزوَّر التاريخ؟

بقلم/ ناصر بورحيل

التاريخ المزيف Pseudohistory‏ يعني الاستخدام السطحي من حواشٍ واستشهادات ومصادر، ليس بهدف تقديم تحليل رصين عن قضية ما، بل بُغية ترتيب الأحداث بقصد العبث فيها، من أجل خدمة فكرة مسبقة، إن الحديث عن الملابسات التي تصاحب كتابة التاريخ، أو استخدام روايات الشهود والزعماء قديمًا وحديثًا، تصاحبها تبريرات مواقف لهذا الطرف أو ذاك، ويمكن أن يقسم التزوير بحسب أغراضه وأهدافه إلى الآتي:

التزوير السُلطوي القديم: أول من ابتدع الطمس في تاريخ الملوك والأبطال، هي الحضارات القديمة مثل (الرافدين، الفرس، الإغريق، الفراعنة، الرومان)، فقد ابتدع اليونان ملحمة الإلياذة، وكذلك الأوديسة، وهي نشيد شعري، يتكون من 15693 بيتًا، وكتابات المؤرخ هسيودوس، وما فيها من انتصارات وخيال وروايات مزعومة، وفي التاريخ المصري القديم اشتهر عن رمسيس الثاني حكم 66 سنة (1279ق.م – 1212ق.م)، ثالث فراعنة الأسرة التاسعة عشرة، شغفه بتزوير التاريخ ونسبة المنجزات لنفسه مثل النصر في المعارك وبناء المعابد وغيرها، وبذلك وجب الحذر من ترديد بعض معلومات التاريخ بصفة مسلمة، ورثت السلط ذلك النهج حتى العصور الحديثة التي أصبحت تستخدم التزوير بطرق أحدث ووسائل أسرع في الانتشار، مع أن التاريخ اللفظي قد يكون تاريخًا معيبًا أو ناقصًا في بعض الأحوال، وإن عدم التدقيق في كل ما أورده المؤرخون قديمًا وحديثًا وأخذ مزاعم الروايات الشفهية المشحونة بنشوة القبلية أو الطائفية أو الجهوية والمدجنة بكلمات وأبيات الشعراء، وتأخير الوثائق والمصادر بحجة عدم توفرها، أو وجود المتخصصين المحايدين، كل ذلك يعمق المشكلة ويحمي التزوير الممنهج، لأن المؤرخين متفقون على أنه ما من إجابة قاطعة لبعض الأسئلة الكبيرة، ويتطلب الأمر تسخير كافة المؤسسات البحثية والعلمية لإعادة قراءة التاريخية والوقائع أكانت قديمة أم ملاحم وطنية حديثة ضد الاستعمار، هي بحاجة إلى إدراج أكبر قدر ممكن من وجهات النظر، والمصادر والوثائق لفهم الأحداث التاريخية.

يقول الكاتب مايكل شيرمر حول التاريخ الزائف إنه “إعادة كتابة الماضي لأغراض شخصية أو سياسية حالية”، ويشاطره في الرأي المؤرخ روبرت تود كارو الذي يقول: “إن التاريخ المزور يعامل الأساطير والروايات الشفوية والقصص الملحمية والأعمال الفنية على أنها حقيقة حرفية”.

التزوير الترفيهي الذي يستخدم الأساطير والخرافة المستقاة من آداب الشعوب المختلفة بطريقة درامية مشوقة، كما جسدها الكاتب إيمانويل فيليكوفسكي في كتابه (عوالم متصادمة)، وكتابه (عصور في الفوضى)، وكتابه (الأرض في حالة اضطراب)، أصبحت من أكثر الكتب مبيعًا في أمريكا ذلك مثال على انطواء التاريخ الزائف القائم على الأساطير المشوقة على إمكانية تحقيق نجاح إعلامي ومادي كبير.

التزوير الجمعي الذي يزور التاريخ عندما نخفي الحقيقة الدامغة عن أعين الجماهير، ربما بحسن نية حتى نحمي تماسك مجتمع ما فيتم إعطاء سردية تاريخية معينة، أو بفعل الخوف من رقابة مجتمعية ضارة بسبب الدين أو الأعراف التي تفرض رواية قد تكون خطأ غير مستندة إلى مصادر ثابتة، لكن الباحث (المقيد) لا يستطيع إلا أن يردد تلك الكلمات، أو الأحداث مجبرًا، من أجل دعم بعض الأجندات السياسية أو الدينية المعاصرة بدلًا من عرض الحقيقة، وبالتالي يصبح التاريخ عملية تزوير ممنهجة تميل إلى الانتقائية في استخدام الوثائق القديمة والمصادر مع ما تتناسب وأجندت بعينها مع لي أعناق الحقائق.

التزوير المتعصب المعبر عن جهل المجتمع وإيغاله في الرجعية العرقية، أو القبلية أو الطائفية، أو جهوية، يقول الدكتور عبدالله النفيسي: “إن الكثير من أقطار العالم العربي اصطنعت واختزلت فيها مجموعات بشرية معينة وضعت لنفسها هوية وأعلاما تقاتل دونها، وهي لا تمتلك القدرة علي الاستمرارية التاريخية والبقاء بجوار فضاءات أمم قوية”، وفي سياق التعصب أيضًا يبرز الحط من شعوب بعينها ووسمها “بعدم القدرة الخلاقة” يظهر جليًّا في كتابات إريك فون دانكن، وكتابه “عربات الآلهة” خير شاهد حيث ادعى أن حضارة فضائية خارجية هي المسؤولة عن بناء الأهرامات وغيرها من آثار الشرق الأوسط، وقد تواطأ بعض الكتاب الأوروبيين في تعزز نفس الادعاء، بالرغم من أنها صُنِّفت ضمن خانة التعصب، لكنها لاقت رواجنًا في العقلية الأنجلو سكسونية المريضة.

التاريخ الدعائي بقصد جلب التأييد لقضية ما، لذا يصنف الهولوكوست أو الإبادة الأرمنية وغيرها عمومًا على أنها أحداث مبالغ فيها، كما يقول العالم “ديفيد إيرفينغ” ورجيه جارودي الذي حوكم سنة 1998 أمام محكمة فرنسية بتهمة التشكيك في محرقة اليهود، ومن أنماط التزوير الدعائي ما يكتبه المنتصرون لأن المنتصر يكتب السطر الأخير والأهم في تاريخ المهزوم، ويلبسه الثوب الذى يشاء، حتى لو كان المهزوم له تاريخ وحضارة، يطمس بعنف من قبل الأمم المتخلفة في حينه وتلصق فيها كل التبرر والوحشية كما فعل الإسبان بعد طرد مسلمي الأندلس.

التزوير الوقائي بمعنى حجب الحقيقة مؤقتًا بدافع وطني من السلطة والنخب المثقفة، حرصًا على تماسك المجتمعات الهشة تضطر تلك الحكومات إلى محاولة تجميل الوقائع أو الشخصيات، أو طمس أسماء العملاء، أو انتهاكات حصلت أو عواصم سقطت ومعارك تغيرت دفتها ببريق الذهب، إن كل هذا الكم من التزوير الممنهج يحتاج إلى نخبة قادرة على التصدي له، لكن الحقيقة المؤلمة هي غياب العقول المفكرة والمؤطرة القادرة على تنقية التاريخ من شوائبه حتى لا يتحول إلى سلاح يفتك بالمجتمعات. 

زر الذهاب إلى الأعلى