نظرية الموالي والسادة في العلاقات الدولية
بقلم/ موسى الأشخم
على هامش مهرجانات القتل في غزة وجنوب لبنان:
نظرية الموالي والسادة في العلاقات الدولية
مقدمة:
استخدم المنتقدون للسلوك الغربي الانفصامي في العلاقات الدولية تعابير المعايير المزدوجة والكيل بمكيالين وما في حكمهما لوصف التعاطي الغربي مع قضايا الحرية والعدالة وحقوق الإنسان على الصعيدين المحلي والدولي، غير أن هذه التوصيفات لا تتسم بالدقة؛ حيث لم يبدل مستخدموها جهداً علمياً لتأصيل الظاهرة تاريخياً.
وترجع أصول الظاهرة تاريخياً في تقديري إلى عصري الإقطاع البشري ” الرق ” والإقطاع الزراعي؛ إذ لم يكن السادة ونبلاء الأرض يقبلون مطلقاً أن يتساوى العبد أو القن مع السيد أو نبيل الأرض على نحو مطلق، وفي الحقوق والواجبات على نحو خاص. وسنستخدم في هذه الورقة تعبير الموالي بدلاً من العبيد والأقنان وهو تعبير ساد في العصرين الأموي والعباسي لينصرف إلى حالتين: الأولى: العتقاء من العبودية الذين يوضعون تحت سطوة وحماية المتفضلين عليهم بالعتق أو الذين يضعون أنفسهم تحت حمايتهم طواعية. الثانية: الغرباء من غير العرب الذين يضعون أنفسهم تحت حماية قبيلة عربية أو تكوين اجتماعي عربي قوي ونافذ بغية أن يتمتعوا بمظلة اجتماعية تضمن لهم الحد الأدنى من الحقوق التي كفلها لهم الإسلام بغض النظر عن نسبهم وعرقهم ولونهم وأوضاعهم الاجتماعية السابقة على العتق، وسلبها منهم مترفو المال والجاه والقول في ظل سطوة أباطرة بني أمية وبني العباس.
ويدل تعبير الموالي على عدم الاعتراف بالعتق من العبودية حين يتعلق الأمر بالعتقاء. مع ملاحظة أنه لم يتم التعاطي مع العتقاء على أنهم موالي لسادتهم السابقين أو للذين تفضلوا عليهم بالعتق، ولم يُستخدم تعبير الموالي مطلقاً لا في العصر النبوي ولا في زمن الخلفاء الراشدين؛ فلم يوصف بلال على أنه مولى أبي بكر رضي الله عنهما، ولا أُخضع لحمايته ونفوذه كما كان الحال مع موالي العصرين الأموي والعباسي. وحتى الأخبار التي توحي بحدوث ذلك كان قد دسها مترفو القول زمن بني أمية وبني العباس في كتب الحديث والسير والتاريخ، حيث لم تُكتب تلك الأخبار والروايات وفقاً لوقائع التاريخ، بل كُتبت وفقاً لمشيئة مترفي القول والمال والجاه في عصر التدوين.
وكذلك فعل مترفو المال والجاه والقول المسماة بالنخب في الإمبراطوريات الغربية السابقة التي تسمت زوراً بالديمقراطيات الغربية إذ رفضوا مساواة العتقاء من العبيد بالسادة على الصعيدين المحلي والدولي. فعلى الصعيد المحلي كانت الممارسات العنصرية ضد السود في الولايات المتحدة على سبيل المثال لا الحصر تعبر تعبيراً جلياً عن ذلك، وهو ما دفع السود لخوض معركة الحقوق المدنية لنيل اعتراف البيض أو السادة بانعتاقهم والتوقف عن معاملتهم كعبيد سابقين أو كموالي وفقاً للتعبير السائد في العصرين الأموي والعباسي، ومع ذلك فالاعتراف بانعتاقهم لا يتجاوز البنية السطحية والظاهرة أما في البنية العميقة فلا يسمح للموالي أو العتقاء سوى بالاستخدام من قبل السادة البيض وإن أسكنوهم البيت الأبيض، فالإتيان بأوباما ذي الأصول الأفريقية والإسلامية إلى سدة الرئاسة في الولايات المتحدة كان لمجرد إرسال رسائل تطمئن للبلدان العربية والإسلامية المستهدفة بمشروعات عبء الرجل الأبيض لنشر الديمقراطية في المنطقة العربية والإسلامية والتي لا ترمي سوى إلى نشر الحروب الأهلية والطائفية وتحويل البلدان المستهدفة إلى دول فاشلة، وهو ما يجعلنا نتوجس خيفة من الإتيان بكمالا هاريس ذات الأصول الأسيوافريقية، ونحذر البلدان الأسيوية من سيناريوهات أمريكية وغربية تستهدفها في الأربع سنوات القادمة.
وعلى الصعيد الدولي رفض مترفو المال والجاه والقول في الغرب الاعتراف بانعتاق سكان مستعمراتهم السابقة وإن سلموا بذلك مكرهين في زمن الحرب الباردة وثنائية القطبية وإن كان اعترافهم أو تسليمهم آنذاك اعترافاً ظاهرياً، ثم ما لبثوا أن سحبوا اعترافهم به بمجرد انهيار الاتحاد السوفيتي، واستعادوا من خلال المؤسسات الدولية الوصاية على مستعمراتهم السابقة متذرعين بضرورة التدخل وانتهاك سيادة تلك الدول لأسباب إنسانية عبر مشروعات عبء الرجل الأبيض لحماية الشعوب من طغاتها تارة وعبر مشروعاتهم لنشر الديمقراطية تارة آخرى والأدلة على ذلك كثيرة في مختلف الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والحقوقية. ودعنا نسوق بعض الأدلة التي تعزز هذه الأطروحة:
أولاً- الموقف من سيادة الدولة واستقلال قرارها السياسي: يعترف مترفو المال والجاه والقول في الغرب بسيادة الدول الغربية وقد يعترفون بسيادة الدول غير الغربية أيضاً إن لم تكن ضمن مستعمراتهم السابقة. غير أنهم لا يعترفون لمستعمراتهم السابقة بذلك فهم يتدخلون في كل كبيرة وصغيرة تتعلق بقراراتهم السيادية أو السياسية فلا يقبلون حكومة من حكومات الموالي لا تخضع لتعليماتهم، ولا يقبلون نتائج انتخابات تأتي بحكومة تحرص على تحقيق سيادتها الكاملة على إقليمها، وتحرص على استقلالية قرارها السياسي والاقتصادي والأمثلة كثيرة على ذلك، ذكر الكثير منها جون بركنز في كتابه الهام: القرصان الاقتصادي: الأغتيال الاقتصادي للأمم. وسنقتصر هنا على ذكر المثال الفنزويلي باعتباره الأقرب حدوثاً؛ حيث رفض الغرب الاعتراف بنتائج الانتخابات الأخيرة في فنزويلا التي فاز فيها مادورو لا لشيء إلا لأن مادورو لا يخضع لاملاءات الحكومات الغربية ويحرص على ألا تعامل فنزويلا وشعبها معاملة الموالي. بينما حتى التوهم أو الإدعاء بالتدخل في الانتخابات الامريكية أدى إلى حرق اوكرانيا وقد يؤدي إلى حرب نووية.
وكذلك الأمر فيما يتعلق بالحق في السيادة على الأقليم حيث يرفض مترفو المال والجاه والقول في الغرب حق الموالي أو المستعمرات السابقة في السيطرة على مجالها الجوي والبحري وحتى على أراضيها، وتُعطي الامبراطوريات الغربية السابقة لنفسها حق الحضور العسكري الطوعي وغير الطوعي في أراضي المستعمرات السابقة بذرائع مختلفة، بل وتعطي لنفسها الحق في إعادة احتلال مستعمراتها السابقة وعلى هذا الأساس أعيد احتلال بنما وافغانستان والعراق وأجزاء من سوريا. ناهيك عن انتهاك المجالين الجوي والبحري لتلك البلدان أين ومتى شاءوا بل وتوجيه ضربات جوية وصاروخية للعديد من المستعمرات السابقة. وهو ما يعزز ما ذهبنا إليه.
ثانياً الموقف من الحقوق والحريات: لا يعترف مترفو المال والجاه والقول في الغرب للموالي أو سكان المستعمرات السابقة بالحقوق والحريات المنصوص عليها في وثائق حقوق الإنسان المحلية والدولية والتي نذكر منها:
1.حرية التنقل: لا يعترف مترفو المال والجاه والقول في الغرب بحق الموالي أو مواطني مستعمراتهم السابقة في التنقل أو الدخول والخروج من وإلى بلدانهم إلا ضمن شروط معينة تتذرع بالحد من الهجرة غير النظامية.
- حرية التعبير: لا يعترف مترفو المال والجاه والقول في الغرب بحق الموالي أو مواطني مستعمراتهم السابقة في حرية التعبير إلا ضمن شروط معينة تتذرع بمقاومة الإرهاب ومقاومة العداء للسامية.
- الحق في الحياة: لا يعترف مترفو المال والجاه والقول في الغرب للموالي أو مواطني المستعمرات السابقة بالحق في الحياة؛ حيث لا تكترث النخب الغربية بقتل أكثر من مليون فيتنامي، ومليون عراقي، ونحو مليون أفغاني، بينما تقيم الدنيا ولا تقعدها عند قتل مواطن أمريكي أو غربي أو رجل ابيض واحد. وحين قٌتل وجُرح أكثر من مائة ألف مدني فلسطيني أغلبهم من النساء والأطفال لم تحرك النخب الغربية ساكنا أو بالتعبير القرآني لم يحرك مترفو المال والجاه والقول في الغرب ساكناً، بينما تقيم تلك النخب الدنيا ولا تقعدها لقتل عشرات من المدنيين في اوكرانيا أو عشرات من الغزاة والمستوطنين الإسرائيليين في فلسطين.
ثالثاً- الموقف من السيادة على الموارد الاقتصادية: لا يعترف مترفو المال والجاه والقول في الغرب بسيادة حكومات ومواطني المستعمرات السابقة على مواردهم الاقتصادية، بل ويعتبرون تلك الموارد حقاً خالصاً لهم، ومن ثم يعتمدون سياسات من شأنها جعل المستعمرات السابقة مجرد اقطاعيات زراعية لنبلاء المال الغربيين أوكلوا إدارتها للموالين لهم من موالي تلك المستعمرات. وفي الحالات التي يتمرد فيها مديرو تلك الاقطاعيات تفرض عليهم سياسات تعيدهم لبيت الطاعة مجبرين طائعين أو تسلبهم حرية التصرف في تلك الموارد. وهذه بعض من تلك السياسات:
1- تسقيف الأسعار: حاول كلا من راوول بريبيش وسينجر من خلال ما عرف في الأدب الاقتصادي بفرضية بريبيش- سينجر تفسير تدهور شروط التجارة الدولية بين البلدان الصناعية والبلدان النامية والذي يتجسد في التفاوت الكبير في الأسعار بين المنتجات الصناعية والمواد الأولية وأرجعتها إلى اختلاف مرونات الطلب الدخلية على الصنفين من السلع. غير أن ذلك وإن صح لا يمكنه تفسير الظاهرة على نحو كامل. وتجد الظاهرة تفسيرها في نظرية السادة والموالي محل البحث؛ حيث لا يمكن للسادة الغربيين السماح للموالي أن يتحكموا في أسعار موادهم الأولية والكميات المباعة منها فلا يمكن للموالي أن يتصرفوا تصرف السادة ومن هناك لجاءت النخب المسيطرة على المال والجاه إلى تسقيف أسعار المواد الأولية دون الإعلان عن ذلك والتسقيف ينصرف إلى الامتناع عن الشراء إذا تجاوز سعر المنتج المستهدف بالتسقيف حداً معيناً كأن يسقف سعر النفط الخام بـ 80 دولار للبرميل اليوم، وأكاد أجزم بأنه لم يتم إنشاء الوكالة الدولية للطاقة إلا لهذا الغرض.
2- تخزين المواد الأولية: عَمِدَ كبار مستهلكي المواد الأولية الغربيين إلى استحداث مخازن ضخمة لتخرين المواد الأولية القابلة للتخرين لعل أشهرها المخزون النفطي الأمريكي الذي يستخدم لضرب محاولات الأوبك التخلص من السقف السعري الذي يفرضه كبار مستهلكي النفط من خلال تكتل الوكالة الدولية للطاقة والحيلولة دون نجاح جهود دول الأوبك للعمل على استرداد السعر التوازني للمنتجات النفطية.
3- انتاج مواد أولية صناعية: دأب صناع القرار الاقتصادي في الغرب الصناعي على انتاج بدائل صناعية للمنتجات الأولية التي ينتجها الموالي أو مواطني المستعمرات السابقة لعل أشهرها المطاط الصناعي، وذلك لضرب أسعار المطاط الطبيعي.
4- سياسة العصا الغليظة: لا تكتفي النخب الغربية المسيطرة على التجارة الدولية بالسياسات المذكورة آنفاً حين تكون مرونة الطلب السعرية متدنية أي عندما تكون السلعة ضرورية ولا تحتمل المصانع الغربية انتظار تأثير تلك السياسات على أسعار المواد الأولية فتلوح الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة بسياسة العصا الغليظة المتمثلة في العقوبات الاقتصادية وإدراج الدولة المصدرة للمنتج في قائمة الدول الداعمة للإرهاب، أو الدول الساعية للحصول على أسلحة التدمير الشامل، أو قائمة الدول المنتهكة لحقوق الإنسان وهلم جراَ. وإن لم تجدِ تلك العقوبات نفعاً مورست سياسة الانقلابات والاغتيالات.
5- الاغتيالات والانقلابات والثورات الملونة: حين يتمرد الموالي من مواطني المستعمرات السابقة على السادة الغربيين يلجأ صنّاع القرار في الغرب إلى أسلوب الاغتيالات والانقلابات والثورات الملونة ولعل أشهر الانقلابات الانقلاب على حكومتي مصدق في إيران وحكومة أليندي في تشيلي، وأشهر الاغتيالات اغتيال رئيس بنما عمر توريخوس ورئيس الإكوادور خايمي رولدوس والقائمة تطول. ولجأ صناع القرار في الغرب في العقدين الأول والثاني من الألفية الثالثة إلى نمط جديد من الانقلابات سمي بالثورات الملونة اسميها مشروعات الرجل الأبيض لنشر الديمقراطية بدأت برومانيا ولن تنتهي بالسودان. وعلى الرغم من أن سكان أوروبا الشرقية لم يكونوا عتقاء أو موالي للإمبراطوريات الغربية إلا أن النخب الغربية تعاملت معهم باعتبارهم عتقاء الروس أو عتقاء الاتحاد السوفيتي فخصوهم بتلك المشروعات المشبوهة فعبثوا بسيادتهم وصنعوا لهم ثورات ملونة نصبت فيها حكومات موالية للغرب. وخصت النخب الغربية البلدان العربية بمشروعات لنشر الديمقراطية أو بثورات ملونة من طراز فريد لا تقتصر على تنصيب حكومات موالية للغرب بل ترمي إلى صناعة حروب أهلية وطائفية تجعل من الانعتاق من أسار الاسترقاق الدولي حلماً بعيد المنال.
ومن نافلة القول الإشارة إلى مصطلح العالم الحر الذي يحلو للنخب الغربية استخدامه وعلى خلاف الفهم السائد له ينصرف لديهم للتفريق بين السادة والموالي فالعالم الحر يضم الامبراطوريات الاستعمارية السابقة وهو ما يتعمد إقصاء المستعمرات السابقة ومواطنيها من تعبير العالم الحر، وذلك لعدم الاعتراف الغربي باستقلالهم أو نعتاقهم من العبودية. ومع ذلك تحاول النخب الغربية تغليف المصطلح بدلالات زائفة تنصرف إلى تمتع مواطني تلك الامبراطوريات بالديمقراطية وحقوق الإنسان بخلاف مستعمراتهم السابقة التي يحكمها وفقاً لهم الطغاة.
أخيراً، للسياسات الغربية المستندة إلى نظرية السادة والموالي في العلاقات الدولية مظاهر عديدة لا يتسع المجال لذكرها في هذه العجالة غير أننا سنعود إليها في مساهمات قادمة بإذنه تعالى.