تحرير العقول
بقلم/ المهدي الفهري
نفض الغبار عن الموروث والمخزون الثقافي الشامل والهائل وإعادة قراءة المشهد بشكل دقيق يساعدنا في التخلص من الترسبات العالقة به، ومن إرث الهجمات الشرسة التي تعَرض لها لتدمير الذاكرة الحية من الداخل والخارج، ومن تراكمات الجهل والتخلف والأمية التي سيطرت على العقل العربي لقرون ولعقود طويلة ويجيبنا على كثير من الأسئلة والاستفهامات، وهذا ما يدعونا إلى الدعوة لتحرير وتنوير عقلية جيل اليوم التائه والحائر بين الاندفاع إلى الحداثة بتجلياتها الجديدة وما يصاحبها من دهاء ودهاليز وبين التمسك بالأصالة والعودة إلى الجذور وفق معايير جدلية في هذا العصر ربما تحتاج إلى غربلة الكثير من الأفكار والآراء وإعادة النظر في العديد من المواقف والمفاهيم ومحاولة تقديم الأشياء على حقيقتها فوصف الواقع بغير الواقع لا يغير من الواقع شيئًا، بل لعله يربك الموقف ويزيد من حدة التوترات التي تنعكس بدورها على معالجة الأمور بشكل سيئ وغير مناسب، لا سيما والمبدأ القيمي الإنساني يقر بأهمية تحرير العقول من كل سلطة عدا سلطة العقل، ويؤكد على الحاجة إلى التعامل مع الإنسان على أنه غاية وقيمة في حد ذاته وليس أداة أو وسيلة مما يستدعي أحيانًا مراعاة ومراجعة النظم الاجتماعية التي ابتكرها لتنظيم حياته بشكل دوري بما يتكيف مع كل مرحلة ومستجداتها وبما لا يتناقض مع تكريم القيم الإنسانية باعتبارها منبع ومصدر كرامته من حيث كونه إنسانًا وبما يضمن له حرية التفكير ويحميه من التدخلات الفكرية التي تسلب وتسرق العقول، فكلما كان الشخص واسع المعرفة ويمتلك فن الإصغاء والمرونة والنسبية في الأحكام، كان حر التفكير وقادرًا على التمييز بين الأشياء الحسية التي يراها مباشرة وبين الأشياء العقلية التي ربما تحتاج إلى تجربة واختبار، ويمكنه التفريق بين الفكرة وصاحب الفكرة ومعرفة الخلفية الثقافية لصاحبها حتى يستطيع إدراك الحقيقة بشكل أدق وتحقيق الغاية منها بطريقة أسهل فكل كاتب مثلًا يكتب من خلال ما يملك من أحاسيس ومشاعر تجاه موضوع الكتابة وعادة ما يعبر عن مشاعره ورؤيته لأي موضوع حسب فهمه وقدرته على الاستيعاب وقد يكون موفقًا في ذلك ويشاركه الكثيرون الفكرة والرأي، وقد لا يكون كذلك ولا يزيد ما يكتبه عن مجرد محاولات لإظهار فكرة ما من وجهة نظره هو، فهناك كتب وكتابات أثرت في تاريخ العلم والمعرفة وأفكار الناس، وهناك بالمقابل كتابات لا تقدم أي إضافة ولا تمنح أي جديد للقارئ أو تسهم في تطوير أفكاره، وهذا ما يقودنا دائمًا إلى التأكد وعدم الاستعجال في الحكم على كل ما نقرأ ونكتب، فالغرض من القراءة ليس دائمًا الحصول على أفكار ومعلومات جديدة، بل صقل قوالب التجديد ورفع مهارات التفكير وتحسين القدرات العقلية التي تحد من الانفعالات النفسية والتعرف على طرق التغلب على الشعور بالضعف الحاصل من تضارب الأفكار والاعتراف بأن المجهود الذهني للعقل يضاهي المجهود البدني للحسم، وما يتعرض له الجسم من تعب وإرهاق يضاهيه في ذلك العقل، ومسؤوليتنا اليوم ومسؤولية رجال الإعلام والفكر والفن والثقافة ومسؤولية الجميع تحرير وترقية الخطاب الثقافي والإعلامي الجامع الذي يسهم في تحرير وتقوية العقل والحكمة والمعرفة لدى الجميع، ويسمح بتنقية وتنمية الأفكار، ويعطي للقارئ نفسًا وفسحة تخرجه من حالة الشك والالتباس وتزيل عنه الهم والقلق الناتج من تكرار الفكرة بلا نتائج والوصول إلى قناعة راسخة مفادها أن تحرير أي شيء بما فيها الأرض يبدأ وينتهي بتحرير العقول.