سلطة اللغة
بقلم/ محمد أبوخروبة
اللغة السياسية هي وسيلة مركزية تستخدمها السلطة السياسية لتحقيق أهدافها، سواء أكانت هذه الأهداف متعلقة بالحكم أم بالإقناع أم بالتأثير على الجمهور.
اللغة في هذا السياق لا تقتصر فقط على الكلمات والجمل، بل تشمل أيضًا الخطابات والرموز والشعارات التي تحمل دلالات سياسية عميقة، وأهم من يعتقد أن الخطاب السياسي المعاصر الأطلسي منه خاصة، يتم التعبير عنه بأخلاق عالية، أو بلغة بريئة تهدف إلى إيصال الخبر كما هو دون تعديل، انسجامًا مع المواثيق الدولية التي تؤكد على مصداقية الخبر والأمانة في نقله وإعلانه، وجاهل أيضًا من يؤمن ولو للحظة، أن الخطاب الغربي المعاصر لا يقوم على تحضيره وصياغته واختيار مفرداته وتعابيره ضمن سياق محدد، خبراء يدركون أسرار اللغة وسلطتها المؤثرة على المتلقين في العالم، وهي تأثيرات بالغة اتسعت طردًا معتطور الوسائل الإعلامية، بدءًا بالصحافة، ومرورًا بالإذاعة والتلفزيون، ومع كل نقلة نوعية معها كان وزن اللغة يزداد رجاحة حتى صار تجاهل أهميتها ضربًا من التلقائية والسذاجة لا تتناسب مع روح العصر وتعقيداته.
معلوم أن لكل لغة قواعد عامة في نحوها وصرفها وإملائها وأصواتها، تضبط اللغة وتشكل سياجًا أمنيًّا يقيها خطر اللحن والانحراف والضياع، وأنه بعد ذلك لكل حقل من حقول المعرفة قواعد أخرى يتقنها أهل الاختصاص، فالأدب مثلا لغته التي تقوم على إبراز الجانب الجمالي والبلاغي والفني، وما لم تف اللغة بهذه الحاجات تخرج عن مجالالأدب، وللسياسة لغتها أيضًا، ولها قواعدها، وهي تعتمد على توظيف دلالات اللغة وإيحاءاتها وقدراتها الهائلة على صنع الحدث، فتعمد إلى إنتاج خطاب سياسي يقوم على النفاق، ويتم فيه تسليط الضوء على الغاية من الخبر، وحجب الوقائع داخل اللغة، ولو أنك دققت في أي خبر تذيعه وكالات الأنباء الغربية، لوجدت أنه يعتمد الدقة في الأرقام والتواريخ والأماكن، ولكنه بعد ذلك يعيث فسادًا في الخبر، ليصبح أشد فتكًا من البندقية والمدفع، وحين تنفذ إلى ما وراء اللغة تكتشف غناه بالخداع والتضليل، ويذهلك حجم المسكوت عنه في الخبر إذا ما قيس بالمصرح عنه.
ومن المجالات التي تبرز فيها سلطة اللغة، المصطلحات السياسية، وهي التي لا يجوز الاستهانة بسلطتها، كما لا يجوز الاعتقاد إطلاقًا بالنيات الحسنة التيتقف وراء التسمية، خذ مثلًا مصطلح (المجتمع الدولي) وتأمله، تجد أن ظاهره يوحي بأنه الرأي العام العالمي، وأن مخالفته تمرد على البشرية، ولكن (المجتمع الدولي) هو في حقيقته الولايات المتحدة وأوروبا الغربية وأذيالهما من العالم الثالث، ولا يعني شيئًا خروج روسيا والصين والهند وإيران ودول أخرى كثيرةمن دائرته، مع أنها تشكل ثلثي العالم، وهي الممثلة الحقيقية للمجتمع الدولي، ولكن المصطلح أخذ سلطة يصعب الوقوف في وجهها.
وإذا أخذنا مصطلحًا آخر، هو مصطلح (أصدقاء ليبيا) نجد نمطًا آخر من تضليل اللغة، وفي هذه الحالة والحالات المشابهة يجب البحث في الوقائعوالغايات التي تقف خلف هذا المصطلح، ومن الضروري تفكيكه إلى قسمين، المعلن عنه داخل اللغة، وليس هو المقصود إطلاقًا، والمحجوب الذي لا يصرح به، وهو الخبر الواقعي؛لأن الصياغة هنا منافقة، فمتى كانت أمريكا وفرنسا وبريطانيا (العظمى) أصدقاء ليبيا؟ وإن القسم المحجوب من المصطلح هو عكس المصرح به تمامًا، واستنادًا إلى ذلك، صار ضروريًّا استقبال الخطاب السياسي بعاطفة باردة، وخاصة إذا كان صادرًا من الغرب، وصار ضروريًّا أيضًا تحليل الحدث وتفكيكه، إن هذا العصر هو العصر الذي يصنع فيه الخبر صناعة باستخدامه سلطة اللغة لتسليط الضوء على مرامي منشئه وأهدافه وإخفاء ما لا يود قوله، ولا يمكن إدراك ذلك إلا بالوعي الثقافي واللغوي الذي يرتاب بكل مصطلح أو خبر تلوكه ألسنة المسؤولين الغربيين وصحفهم ووكالات أنبائهم.
بقي أن نشير إلى أن الخبر أو الحدث السياسي الذي يهم الغرب، لا يأتي دفعة واحدة، وإنما ينطلق على مراحل للإيهام بصدقيته، ثم يأتي سيل من الأخبار تدهشنا وصولًا إلى القطع بصحته، ويجري خلال ذلك استغلال اللغة للعب بعقول الأفراد والجماعات، وإذا تبين فيما بعد الفبركة، يكون الخبر قد فعل فعله وأدى وظيفته، ولا اعتذار، ولا اعتراف بالخطأ، وإنما تحميل اللغة أوزارهم وأكاذيبهم.