تلميع صورة المحتل
بقلم/ المهدي الفهري
رغم تغير بعض المواقف لبعض الدول وتطور الوعي بأهمية المصالح المشتركة ومحاولة فصل الخلافات الجيوسياسية عن المصالح الاقتصادية لإقامة علاقات طبيعية مع الغرب وتحديد الآليات اللازمة لذلك إلا أننا لم نجد في التاريخ عبر مراحله المختلفة ما يُلمع صورة المحتل وخاصة الغربي في أي مكان حل به، بل على العكس من ذلك، وجدنا الأدلة والإدانات الكافية والمتكررة التي تظهره على صورته الحقيقية وتبرز محاولاته المتتالية لطمس الهوية والمعتقد للأمم والشعوب التي قام ويقوم باحتلالها، ولم نعثر البتة على ما يُقدم أي صور إيجابية يمكننا الإشادة بها أو التنويه إليها في أي مرحلة من المراحل التاريخية التي قمنا بدراستها وتصفحها، بل وجدنا أن ما قام به هذا المحتل من استخدام مفرط للقوة واستعمال مرعب للأسلحة المحظورة يُشكل انتهاكات رهيبة ترتقي وتدخل ضمن الأفعال المصنفة جرائم حرب ودمار وخرقًا واضحًا وصريحًا لكل القوانين والأعراف الدولية منذ بداية الصراع معه وحتى هذا التاريخ.
إن أول عمل يلجأ إليه المحتلون دائمًا هو العمل على إلغاء الذاكرة الوطنية تحت التستر باحترام القانون الدولي والاتفاقيات الإنسانية وعدم المساس بالحقوق المدنية إيمانًا منهم بأن الذي يفقد ذاكرته يفقد ذاته وتاريخه، لا سيما وأن ملفات الذاكرة معهم عبر التاريخ لا تحمل في ثناياها ما يشجع على النسيان وطي الصفحات المظلمة وفتح صفحات جديدة دون الإشارة إلى التعنت والفوقية والنظرة الشيفونية الموروثة التي يحرصون على نقلها من جيل إلى جيل، والتي تحولت بكل أسف إلى سلوك وتصنيف خارج عن كل أطر المساواة والندية والمعاملة بالمثل، ولا يمكن قراءة التحرك والتحامل من جانبهم مع بداية وظهور أي أزمة إلا في الإطار الأناني المشحون بالتوتر والدفاع عن المصالح التي لا تنتهي ولا تتوقف عند حد من حدود الجشع وممارسة لعبة الاستهداف والابتزاز من أجل إعادة التموقع والتموضع في كل مرة بما يخدم أطماعهم ومصالحهم الاقتصادية والسياسية والثقافية وغيرها من الأهداف والغايات التي تتبدل وتتلون مع كل طيف وخارطة سياسية جديدة.
ورغم ما شهدته أوروبا من انتفاضات وثورات شعبية ضد رجال الدين إلا أن احتلال الشعوب كانت له روح صليبية عدوانية تسبق الأهداف السياسية والاقتصادية للاحتلال لأي بلد من البلدان التي قاموا باحتلالها من خلال التهجير القسري والإبادة الجماعية وعبر استراتيجية الحرب الشاملة وسياسة الأرض المحروقة والإصرار على نشر ثقافته ومعتقداته، ولم تعترض المؤسسات الدينية لديه على ذلك، بل هي من شجعته ودعمته في تنفيذ سياساته العدوانية في الهيمنة على مقدرات الشعوب وسلب مواردها وثرواتها، وتأتي مرافقة رجال الدين المسيحي للحملات العسكرية الصليبية أثناء احتلالهم لبلداننا في هذا السياق لتؤكد على الأبعاد العقائدية لهذه الحملات التي تمتد جذورها إلى القرون الوسطى مرورًا بالثورة الفرنسية، ولتؤكد بأن هؤلاء لا يعترفون بعلاقات ندية وبشراكة اقتصادية مفيدة لجميع الأطراف في وقت صار فيه من الصعب منح الثقة وقبول الأعذار والمبررات عندما لا تطابق الأقوال مع الأعمال وتكشف الأفعال كل الحقائق.
وذلك وغيره مما تضيق به هذه المساحة يذكِّرنا أيضًا بدور المنظمات الإنسانية والحقوقية المتواطئ شأنها شأن المؤسسات الإعلامية والحزبية في جُل هذه الدول التي تحولت هي الأخرى إلى أدوات وظيفية في خدمة الأجندات والسياسات العميقة المبنية على التآمر على الشعوب وتنفيذ البرامج والخطط المشبوهة لضرب السيادة الوطنية وتحويلها إلى دول تابعة تدور في فلك ومجرة هذا الفضاء الذي يبدو أنه عاجز عن الحياة بدون السطو على مواردنا وأسواقنا، والمفارقة أن هنالك من بيننا اليوم من يحاول تلميع تلك الصورة البشعة وما زال يصدق ويسوِّق بوجه سافر بأن المحتل القديم والحديث حليف استراتيجي!