بوادر نهاية الهيمنة الأمريكية
بقلم/ فرج بوخروبة
إذا ما رجعنا إلى تاريخ تأسيس الدولة الأمريكية بقيادة الآباء السبع وهم: جون آدمز، بنجامين فرانكلين، ألكساندر هاميلتون، جون جاي، توماس جيفرسون، جيمس ماديسون، وجورج واشنطن في يوليو 1776 حيث أعلن الكونغرس القاري الاستقلال عن بريطانيا العظمى آنذاك ككيان جديد، تحت اسم الولايات المتحدة الأمريكية بعدد ثلاث عشرة ولاية، نتج عنها حرب ضروس، وانتهت بهزيمة بريطانيا، ثم أنشأت معاهدة السلام لعام 1783 حدود أمريكا الشمالية!
ومنها وعلى أنقاض المواطنين الأمريكيين (الهنود الحمر) الأصليين قبل عصر المكتشف “كريستوفر كولومبوس” بدأ تاريخ أمريكا وتطلعاتها إلى الصعود، بعدما انتصرت في الحرب بين الشمال والجنوب، بزعامة الرئيس الأمريكي “أبراهام لينكولن” الذي استطاع توحيد الولايات المتحدة الأمريكية وتحرير الزنوج.
ماذا كان هدفه الرئيس؟ في 1 يناير 1863 وقع “أبراهام لنكولن” إعلان تحرير العبيد في محاولة لتجميع أمة غارقة في حرب أهلية دموية، اتخذ “أبراهام لنكولن” قرارًا أخيرًا، ولكن محسوبًا بعناية، فيما يتعلق بمؤسسة العبودية في أمريكا. حتى فترة رئاسته (1861 – 1865)، ويعد هذا الزعيم من أعظم زعماء التاريخ في أمريكا الشمالية رغم تصفيته بعيار ناري بالرأس على يد “جون ويلكس بوث” تعارضًا مع سياسة لنكولن ومحاولة منه لإحياء قضية الولايات الكونفدرالية.
دخلت أمريكا في حروب وغزوات كثيرة وشرسة لم تنتصر في أكثرها، إلا أنها أصبحت الآن وبنفس طويل، أقوى دول العالم من حيث النفوذ، كدولة عظمى تعد نفسها راعية حقوق الإنسان، وحاملة مشعل الحرية، والداعية إلى العدالة والمساواة بين شعوب العالم، حتى أصبحت تنصب نفسها (شرطي العالم)، وعندما دخلت في تحالف دولي (1939 – 1945) ضد دول المحور وكان النصر حليف قوات التحالف بالحرب العالمية الثانية، وصار لها أن تحقق أهدافها في أن تكون قوة عسكرية كبيرة على الأرض، بدأت تفكر في قيادة وزعامة العالم بشيء من الذكاء، حتى تمكنت من مرادها.
بالأمس القريب أعلن الرئيس الأمريكي “جو بادين” عن ضرورة وضع اليد باسم قمة الدول السبع الكبار، على الأصول الروسية، أي الودائع التي تم تجميدها في البنوك الغربية، حيث بلغت قيمتها 300 مليار دولار أمريكي، والتصرف في هذه الأصول لصالح إعادة إعمار ومساعدة أوكرانيا، والمؤكد أنهم قد بدؤوا باستخدامها فعلًا بعد أن قرروا دفع خمسين مليار دولار منها إلى أوكرانيا! وهذا أمر يعود بنا إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية وبالتحديد سنة 1944 حيث جاءت فكرة إنشاء اتفاقية “بريتون وودز” الدولية التي وقعت من قبل الأغلبية المشاركة في ذلك الوقت من بينها أمريكا صاحبة أكبر مخزون ذهب في العالم! وبذلك استعدت أمريكا أن تضع الدولار عملة في التداول العالمي مقابل تعهدها بأن لأي دولة الحق وفي أي وقت أن تأتي بدولاراتها إلى أمريكا وتأخذ مقابلها ذهبًا بسعر السوق، عوضًا عن حمل الذهب وثقله وصعوبة تنقله، اعتمدوا الدولار وبقي الأمر حيز التنفيذ، وبالفعل قامت دول بتبديل الدولار بالذهب دون أي مشاكل تذكر حتى عام 1971، وفي عهد الرئيس “ريتشارد نيكسون ” بدأت التعقيدات، عندما صرح الرئيس حينها، بأنهم سيعلقون العمل باتفاقية “بريتون وودز” وسيظل اقتصادنا ودولارنا هما المفتاح لاقتصاد العالم وحركته المالية، والمصارف الأمريكية الكبرى أصبحت هي من تدير حركة المال في العالم، هي مركز المصرف العالمي.
أمريكا في ذروة صعودها العسكري والسياسي والاقتصادي، وحدها كانت تمتلك قرابة 30% من الاقتصاد العالمي، وحجم التداول بالدولار يكاد يتجاوز 95% من تداول العملات على مستوى السوق العالمية.
الآن أمريكا فقدت مكانتها الاقتصادية الأولى، حيث حققت الصين أكبر ناتج بإجمالي 30 تريليون دولار حاليًا، بينما أمريكا لم تتخط الـ 25 تريليون دولار لتصبح الصين في المركز الأول، متقدمة عن أمريكا اقتصاديا! هذا يعني أن المكانة الاقتصادية الأولى انتهت، المكانة السياسية الأولى انتهت، والدليل على نهاية هذه المكانة السياسية الأولى، أن أمريكا عاجزة عن حل أي مشكلة من المشكلات في العالم، لا حرب غزة ولا حرب أوكرانيا، ولا أزمة تايوان، لم تعد هي سيدة العالم اليوم كما كانت تزعم!
عسكريًّا لم تعد هي الدولة الأولى أيضًا، على المستوى الإستراتيجي، ولا على السباق النووي التي سبقتها روسيا بعشرين سنة إلى الأمام بحسب قول خبراء أمريكيين في هذا الشأن، وعلى المستوى التقليدي، الأسلحة الأمريكية تبدو وكأنها تنتمي إلى القرن العشرين! بينما حروب القرن الحادي والعشرين تدور بأسلحة أخرى، حاملات الطائرات أصبحت هي والعدم سواء لأنها بلا قيمة، حيث من الممكن لصاروخ سعره واحد من مليون من قيمة هذه الحاملة تدميرها، لذلك هي خارج السياق اقتصاديًّا وسياسيًّا وعسكريًّا، ماذا بقي لأمريكا إذن؟
بقي لها الدولار ونظامها المصرفي، عملتها لا تزال هي الأولى، رغم أنها تواجهها تحركات في العملات الأخرى التي بدأت تصبح أدوات تداول تجاري بين بعض الدول، فمثلًا: روسيا والهند دولتان ضخمتان اقتصاديًّا وكبيرتان، تتبادلان التجارة بالروبية الهندية والروبل الروسي، كذلك روسيا والصين، اليوان الصيني والروبل الروسي، فيخرج تقريبًا 30% من اقتصاد العالم، من التداول بالدولار، فيخسر الدولار لكن لا يزال هو الأول، وتخسر المصارف الأمريكية لأن عدم الثقة في النظام المصرفي بعد أزمة 2008 والرهون العقارية المعروفة! كاد ينهار النظام المصرفي حينها، جعل هناك قلقًا دائمًا من إدارة النظام المصرفي، فتحول كبار المودعين إلى الذهاب إلى أسهم آمنة وإلى عملات وسلة عملات متعددة، لذلك أمريكا الآن تفقد مكانتها الأولى اقتصاديًّا، وسياسيًّا، وعسكريًّا، وتحتفظ بمكانتها الأولى ماليًّا، لكن مع دولار ونظام مصرفي أضعف من الماضي! إذن ماذا عليها أن تفعل؟