التدمير الذاتي!
بقلم/ مصطفى الزائدي
ما حدث في ليبيا من تدمير ممنهج للمؤسسات والمباني والتجهيزات والمصانع والموانئ والمطارات والطرق وغيرها، وما شهدته من انهيار كلي للخدمات الأساسية المختلفة، أمور مادية يمكن تعويضها وإصلاحها، فآثارها تؤثر في حياة الجيل الحالي فقط، إذا تمكن الليبيون من إعادة بناء الدولة وإقامة مؤسسات وطنية قوية وتخلصوا من سطوة وسيطرة الأجنبي وإنهاء حالة العبث والفوضى.
لكن الأمر الخطير الذي يصعب معالجة آثاره طويلة الأجل هو التدمير الذي لحق بالتعليم، منذ سنوات، حيث أصيب بعطب خطير سببه الشلل الذي أصاب العملية التعليمية لسنوات لأسباب أمنية، وعدم توفر المواد الدراسية من كتب ومعامل ووسائل وما إليها، وعدم قدرة المعلمين على الحصول على فرصة لتطوير أنفسهم، لتوقف برامج التدريب المستمر، وتجمد المناهج التعليمية على ما كانت عليه منذ عقود، وعدم مواكبة التطور العلمي الذي حدث في العالم، وحتى عندما ينتظم التعليم في بعض المؤسسات فإن العملية التعليمية لا تسير وفق ما هو مخطط لها، وسمتها السائدة التلاعب والغش، وبالنظر إلى أن قطاع التعليم العام هو المتضرر الأكبر، فإن الميسورين من المواطنين يقومون بإرسال أبنائهم إلى مؤسسات التعليم الخاص التي لم تكن للأسف الشديد في المستوى المطلوب بالرغم من التكلفة العالية التي تفرضها على الطلاب، فالهدف الأساسي لهذه المؤسسات هو الربح دون النظر إلى المستوى العلمي وتحصيل الطلاب، ربما يعكس ذلك أن أغلب مدارس التعليم الخاص لا تمنح تراتيب للطلاب الناجحين لترضية أولياء الأمور، أغلب الطلاب يحصلون على تقديرات عالية لا تعكس حقيقة المستوى العلمي لهم.
إن التعليم العام والخاص على حد سواء أصيب بعطب شديد، والتعليم الجامعي في وضع أسوأ، دون الاستهانة بالجهود الجبارة التي يبذلها المعلمون وأعضاء هيئة التدريس الجامعي في ظروف في غاية الصعوبة، سواء من الناحية الأمنية أم المعيشية، إضافة إلى عدم توفر الوسائل المناسبة، إلا أن تلك المجهودات التي يؤدونها في واقع الأمر تذهب سدى، فعندما تعتمد حصيلة التعليم على الغش في كل أشكاله ويصبح الحصول على الشهادات بالتزوير أمرًا متيسرًا ومقبولًا وشائعًا، وعندما تجد أناسًا لم يتحصلوا على تعليم إعدادي أو ثانوي يتفاخرون بأنهم من حملة الدرجات العلمية العليا، فذلك يعكس المستوى الذي وصل إليه التعليم.
التعليم بالخارج ليس أفضل حالًا، حيث أغلب الموفدين للدراسة ليس هدفهم التعليم، بل الحصول على المنح والامتيازات والعودة بشهادات لا قيمة لها.
عندما ينهار التعليم فإن آثاره لا تصيب فقط الأجيال الحالية، بل ستمتد إلى عدة أجيال قادمة، ويحدث ما يمكن وصفه بالتدمير الذاتي للمجتمع، ويسير في خط متنامٍ مستمرٍ ومتواصلٍ ويضاعف بعضه البعض، وكلما يستمر هذا الخلل في التعليم يتطور إلى حالة أسوأ من سابقتها.
أنبه النخب الليبية المهتمة بإعادة بناء الدولة وترميم النسيج الاجتماعي بأنه من أهم الأولويات ليس إعادة البناء والإعمار المادي ولا حتى فرض الأمن والاستقرار، رغم أهميتهما، بل النظر إلى التعليم من حيث المناهج التي تعرضت لعملية تشويه كبيرة، خاصة في مناهج التربية الوطنية والدين الإسلامي، وكذلك المناهج العلمية التي تجمدت على حالها منذ عقود دون أي تطوير.
إن تقييمًا جديًّا وقويًّا للشهادات والدرجات العلمية أمر عاجل ومهم لحماية الأجيال القادمة، بالتأكيد إن لم ننجح في معالجة الأضرار التي لحقت بالعملية التعليمية، فلن نستطيع أن نتجاوز الآثار الكارثية لانهيار التعليم، وعلى الأقل نعيد تأهيل العملية التعليمية للمستقبل بحيث نحمي الأجيال القادمة من الانهيار.
أدعو إلى جهد وطني تقوم به المؤسسات المجتمعية المختلفة ذات العلاقة بالعملية التعليمية لطرح هذا الأمر ودق ناقوس الخطر والدعوة إلى النظر في التعليم.
القاعدة التي ينبغي أن نبني عليها نظامًا تعليميًّا ناجحًا، أن التعليم حق لكل المواطنين، ينبغي أن يكون في متناول الجميع بغض النظر عن مستوياتهم المادية، وعلى الدولة أن تتحمل بأي صورة كانت تكاليف العملية التعليمية حتى لا يحرم الفقراء من الحصول على فرصة مناسبة للتعلم، وهذا ما يجري الآن.