ملفات وتقارير

في الذكـــرى الـ 93 لاستشهـــاد شيخ الشهداء عمر المختار

“إنني أؤمن بحقي في الحرية، وحق بلادي في الحياة، وهذا الإيمان أقوى من كل سلاح”

إعداد: عبدالباسط أقلاش
يحيي الشعب الليبي اليوم الإثنين السادس عشر من شهر سبتمبر الذكرى الثالثة والتسعين لاستشهاد شيخ الشهداء “عمر المختار”، بطل الجهاد المقدس، الذي وهب حياته فداء للوطن، واستشهد وهو يقارع الاستعمار الإيطالي البغيض، مسجلًا بكل فخر واعتزاز مع المجاهدين الليبيين الأبطال ملاحم خالدة من أجل تخليص التراب الليبي من دنس المستعمرين.

ففي السادس عشر من شهر سبتمبر من العام 1931 قام الغزاة الطليان بإعدام المجاهد عمر المختار شنقا في منطقة «سلوق»، مرتكبين بذلك أبشع جريمة في تاريخهم، بعد أن لقنهم هو ورفاقه المجاهدون الليبيون دروسًا يشهد التاريخ بعظمتها في مسيرة جهاد الشعب الليبي الطويلة ضد الغزاة الطليان، التي خاضها آباؤنا وأجدادنا دفاعا عن الوطن.
إن إحياء ذكرى استشهاد شيخ الشهداء عمر المختار هو تذكير لليبيين والليبيات بتاريخهم المليء بالبطولات والتضحيات التي قدمها آباؤهم وأجدادهم دفاعًا عن الوطن والكرامة، فقد قدم هذا الشعب قرابة ثلاثة أرباع المليون شهيد على دروب العزة، مسجلًا بذلك أروع ملاحم البطولة والجهاد ضد الاستعمار من خلال المقاومة الشعبية الباسلة التي سجلها وبكل فخر، وهو أعزل من السلاح.
شيخ الشهداء عمر المختار من الأسماء القليلة التي برزت ولعبت أدوارًا مهمة في تاريخ الجهاد في ليبيا منذ بدايته سنة 1911 وحتى استشهاده عام 1931، بعد أن ملأ الدنيا بأخباره وأعماله، وترك أثره في كل ناحية من نواحي الإدارة والحرب والتنظيم المالي والاجتماعي والحربي في حركة الجهاد العربي الليبي.
ولد الشيخ عمر المختار سنة 1862 في منطقة البطنان، وهو عمر بن المختار بن فرحات من عائلة غيث، قبيلة بريدان إحدى فروع قبيلة المنفه، وأمه هي عائشة بنت محارب، وتلقى تعليمه الأول كغيره من أبناء جيله في الكتاتيب، حيث درس بزاوية جنزور بدفنة ناحية طبرق، ثم انتقل إلى الجغبوب عقب وفاة والده سنة 1878، حيث استمر في تلقي تعليمه ولمدة ثماني سنوات هناك.
لقد كانت نشأة عمر المختار في بيئة بدوية تعيش على الكفاف وتعشق النزال وتمارس القتال دفعًا للظلم أحيانًا بحكم ظروف الحياة السائدة حينها، وتلك بيئة تصقل الرجال وتؤهلهم لتحمل أقسى التبعات وأصعبها في مستقبل أيامهم، إن حياة الصراع القبلي أكسبته مقدرة على اقتحام المخاطر فيما بعد، وكثرة الرحلات والمهام التي كلف بها وهو في مقتبل العمر زودته بخبرات غنية ومفيدة، فقد كانت له مقدرة على فض الخصومات، وخبرة بمسالك الصحراء ومنافذ الجبال بحكم أسفاره العديدة، وهذه الصفات في مجملها زودته بها حياة البادية، فأهلته لتحمل التبعات الجسام التي ألقتها الأقدار على كاهله، كما تلقى دروسًا حرفية في الحدادة والنجارة وغيرها، كما تعلم فنون الحرب والفروسية.
أرسل الشيخ عمر المختار في مهام كثيرة إلى السودان ومصر، كما شارك في وفود فض المنازعات وعقد الصلح بين القبائل المتنازعة، وفي عام 1895 كلف بمهام شيخ زاوية القصور بالجبل الأخضر ولفترة قصيرة.
وفي عام 1899 انتقل مع أحمد الشريف إلى السودان واستقر في منطقة «قرو»، وأسهم في نشر وتأكيد عروبة وإسلام هذه المناطق، ومقاومة الغزو الفرنسي لتلك المناطق، وعين شيخًا لزاوية «كلك»، وقاد عمليات المقاومة المسلحة ضد القوات الفرنسية في منطقتي “واداي” و”تيبستي”.
وفي عام 1906 رجع إلى أرض الوطن وعين شيخًا لزاوية القصور من جديد، والتحق بحركة الجهاد ضد الغزو الإيطالي منذ بداية العدوان، وخلال الفترة ما بين أعوام (1913 – 1916) انتقل مع المجاهدين إلى منطقتي تاكنس – القصور حيث ظل محاربا مع المجاهدين ينتقلون من جهة إلى أخرى حاملين لواء الجهاد ضد قوات الغزو، وقد عهد إليه بالقضاء على بعض الأفراد والعصابات التي كانت تمارس أعمال النهب والسرقة، فاستطاع أن يقضي عليها وعلى كافة الأعمال التي لا تنسجم مع مفهوم الجهاد.
وخلال الفترة الممتدة ما بين أعوام (1916 – 1922) تولى إدريس السنوسي زعامة الحركة السنوسية، وعقد مع الطليان هدنة، ودخل في سلسلة من المفاوضات مع الإنجليز والإيطاليين بدأت في الزويتينة وانتهت بتوقيع سلسلة من الاتفاقيات اعترفت بالاحتلال الإيطالي، ليتخلى عام 1922 عن الجهاد وغادر إلى مصر بعد أن فشل في تنفيذ اتفاقياته مع الإيطاليين تحت الضغط الشعبي، وكان شيخ الشهداء عمر المختار عبر مراحل جهاده ضد الطليان يعتمد رأي جماعته من المجاهدين الكبار، ويسير الجهاد بطريقة «ديمقراطية» فريدة، ولقد استفاد إلى أبعد الحدود من أفكار مستشاريه الكبار، خاصة المجاهد يوسف بورحيل، وفي عام 1923 تسلم قيادة حركة الجهاد، وعمد إلى تنظيم الأدوار لمعسكرات المجاهدين، حيث جعل لكل منها قائدًا ومجلس قيادة مستقلة عن غيرها، وإدارة مدنية، ولكنها جميعًا تخضع لقيادته.
قاد عمر المختار العديد من المعارك خلال الفترة ما بين أعوام 1923 – 1931، حيث كانت البداية في الثالث والعشرين من أبريل عام 1923 خاض أول معركة مع العدو، وهو في طريق عودته من مصر في مكان يسمى «بئر الغبي»، حيث كانت فصيلة من قوات العدو تتوقع عودته، فكسرها وواصل رحلته إلى الجبل الأخضر، وتعد معركة الرحيبة التي جرت في الثامن والعشرين من شهر مارس للعام 1927 من أعنف وأنجح المعارك التي جرت في هذه المرحلة من الجهاد، وعن تلك المعركة يعترف الجنرال «تروتسي» -والي برقة حينذاك- بالهزيمة المنكرة والخسائر الكبيرة التي بلغت ستة ضباط وثلاثمائة وأربعين جنديًا قتيلًا، وأدت هذه الهزيمة إلى هز مركز الاحتلال وقوته، وهو ما اضطر «تروتسي» إلى اتخاذ جملة من الإجراءات العسكرية في محاولة لضرب حركة المقاومة.
واشترك شيخ الشهداء في مفاوضات سيدي رحومة عام 1929، وقد رفض الشروط الإيطالية بالاستسلام والتفريط في حقوق الوطن، وتميز عمر المختار عن غيره بأنه رغم طول مدة جهاده لم يضعف ولم يستسلم ولم يهاجر، وظل وفاؤه للقضية الوطنية بارًا بدينه ورفاقه وعروبته حتى آخر لحظة في حياته.
وفي العاشر من سبتمبر عام 1931 خاض آخر معاركه وهي معركة وادي بوطافة بالجبل الأخضر، حيث أصيب فرسه ووقع منها جريحا على الأرض، فتم أسره ونقله إلى مدينة سوسة، ومنها إلى مدينة بنغازي حيث قدم لمحاكمة صورية في الخامس عشر من ذات الشهر، لينفذ فيه حكم الإعدام شنقا أمام عشرين ألفا من المعتقلين في السادس عشر من سبتمبر عام 1931 بمعتقل سلوق.
وقد نشرت صحيفة بريد برقة لصاحبها عمر فخري المحيشي، في عددها (346) الصادر في شهر سبتمبر من العام 1931 خبرًا مفاده (القبض على عمر المختار زعيم العصاة في برقة)، حيث اعتبرت القبض على شيخ الشهداء “سبيل توطيد سلم البلاد” فكانت لسان حال المستعمر الإيطالي ونشرت أخبارهم.
ولم يهمها ما كان يعاني منه المواطن الليبي، فقد هجا الشاعر أحمد رفيق المهدوي جريدة بريد برقة فقال:
فلا يغررك ما قال البريد
هراء لا يطاق ولا يفيد
إن جاؤوا إليك به فعجل
إلى المرحاض يصحبك الوقيد
وقد تناول العديد من الشعراء الشعبيين خبر استشهاد شيخ الشهداء عمر المختار، منهم: الشاعر حمد محمود الباسل، حيث يقول:
عزاه يوم شايطه فيه نار عمر المختار الفارس اللي كان ريس أدوار
ويقول الشاعر عبدالسلام الكزه:
نلقانه العزا فيه يندار
يجنه هجوم جيوش
ريمهن كيف ريم الغيوم

ومقاويدهن من شداد العزوم
فكاكة الثأر
جيابة الفخر يوم العيار

هذاك هو اللي إن كان يطرن خشوم
يجيد المعار
ويبري قلوب م الغيط راحن دمار

حجايج الورق ما بهن شي لزوم
ولا بهن افخار
وايش فايده قولهن صار صار
ويقول الشاعر الفضيل المهشهش:
نلقانه عزا سيد سمح النبات
ماوْبْكا بنات
ولا حجايجا في ورق بايزات

يجنه طوابير مْتناغرات
قباله اجهار
في القايله عز وسْط النهار

ويتمن على المعركة نازلات
وديرن مدار
ما عْمره قبل في حرب صار
ويقول شاعر آخر:
نلقانه عزا سيد قاصرين القين
وقادح العين
نهار شر من يوم سيدي حسين

يتموا على المعركة نازلين
قبالة صدار
ازوار م الخيل تتبع ازوار

ما تبان له سمس م الدخاخين
مفيت كبر نار
والضرب فيه دك ماو بالعيار


نلقانه عزا الشيخ مير الجهاد
وعز البلاد
جيوش ريمهن كيف ريم الجراد

يلزن جيوش العدو م البلاد
ويفكن الثأر
ويهدًن كا هد موج البحار

تيت قوة الطليان تبقى رماد
ويربحوا دمار
أولاد طاليا كبارهم والصغار

هل هناك ليبيون غيرنا؟
لعله السؤال الجدير بالطرح قبل خمسة وخمسين عامًا عندما لم تكن ليبيا لليبيين.. فقد كانت للإيطاليين والإنجليز والأمريكان وحتى الهولنديين، فكانت الإجابة في السادس عشر من سبتمبر عام 1969 في أول إحياء لذكرى شيخ الشهداء عمر المختار، اليوم الذي قال فيه قائد الثورة: إن هذا الشعب الذي أعطى ما يملك للذين خدعوه، عرف الحقيقة الآن وعرف الطريق الآن وسيشق طريقه بنفسه الآن، لن يُخدع بعد اليوم ولن يُضلل بعد اليوم ولن يقاد كالأنعام بعد اليوم، إن هذا الشعب هو القائد بعد الآن وهو السيد.
وبفعل الجهود التي لم تتوقف منذ عام 1969 من أجل أن تعترف إيطاليا بمسؤوليتها عن فترة استعمارها لليبيا وتعلن اعتذارها للشعب الليبي عن تلك الحقبة الاستعمارية، وتعترف بحقه في التعويض عن الأضرار الفادحة التي لحقت بأبنائه وأرضه جراء تلك الحقبة البغيضة، وحقه في معرفة مصير آلاف المواطنين الليبيين الذين قام الاستعمار الإيطالي بنفيهم في أسوأ الظروف إلى جزر الجنوب الإيطالي وقبور من استشهد منهم، واستجابة لذلك أعلنت إيطاليا بتاريخ التاسع من شهر يوليو عام 1998 رسميًا ولأول مرة اعتذارها للشعب الليبي عن فترة الاستعمار الإيطالي لليبيا معترفة بتلك الحقبة الاستعمارية البغيضة، وما جرته على الليبيين من آلام وأضرار فادحة.
ولم يكن الشعب الليبي منتصرًا على الماضي الاستعماري الإيطالي والمستعمرين الإيطاليين الفاشست مثلما أصبح في يونيو من العام 2009، حيث انتبه العالم بأسره إلى مشهد تاريخي عظيم غير مسبوق وموقف بطولي نادر الوجود، وسيظل شيخ الشهداء عمر المختار رمزًا للنضال والكفاح وستبقى كلمته الخالدة «إنني أؤمن بحقي في الحرية، وحق بلادي في الحياة، وهذا الإيمان أقوى من كل سلاح» منهاجًا للوطنية ونبراسًا للمجد والحرية.

زر الذهاب إلى الأعلى