مقالات الرأي

المصطلحات ولعبة التبعية

عبدالمجيد قاسم

في اعتقادي أن أبرز إشارة لمدى أهمية الأسماء والمصطلحات، ومدى تأثيرها في عقلية البشر وردت في القرآن الكريم في قوله تعالى: “وعلم آدم الأسماء كلها”، فالخالق -عز وجل- بمجرد خلقه لآدم علمه الأسماء التي ستكون المادة أو الوقود لتلك الميكنة الإلهية العظيمة التي تسكن رأس البشر، والتي تسمى العقل.

فمن خلال معرفة الأسماء يبدأ التعامل مع الأشياء بشكل عقلاني، ويبدأ تكوين الانطباعات، وتبدأ المسؤولية التي تتحدد بسلسلة الحقوق والواجبات التي هي لاحقة لتلك المعرفة.

لذا نجد أن شريعة آدم عليه السلام في الجنة قد جاءت لاحقة لمعرفته بالأسماء، وشريعته كانت “اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدًا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة”، فهنا نجد شريعةً بسيطة تناسب مجتمع آدم الذي يتكون منه ومن زوجه، حيث نجد أمرًا تعلقت به إباحة ونهيًا، ترتب عليه تحريم.

وقد كان اهتمام الفلاسفة بالأسماء والمصطلحات واضحًا، فأفلاطون أبدى اهتمامه بالأسماء ودورها في تمثيل الأفكار أو “المثل” المثالية، ورأى أن الأسماء يمكن أن تعكس حقيقة الأشياء.

وأرسطو رأى أن الأسماء تلعب دورًا في تحديد خصائص الأشياء، بل وتصنيفها، وفي فلسفته، الأسماء تعكس الجواهر والأصناف التي تنتمي إليها الكائنات.

وفريدريك نيتشه اعتبر الأسماء أدوات للقوة والسيطرة، وأنها قد تساهم في تشكيل القوى الثقافية والاجتماعية.

وعمومًا فإن للمصطلحات والأسماء دورًا في تشكيل الهوية، فاللغة وعاء للأفكار، وهي تشكل ذائقةً من نوع خاص، تميز كل أمة عن غيرها، فشعر وليم شكسبير لا يروق لأصحاب اللسان العربي، وأوزان الخليل في الشعر العربي لن يتذوقها سوى العربي، تلك الأوزان التي هي إيقاع موسيقي ترسمه السكنات والحركات وتميز الشعر من النثر.

وبذات القدر لعبت المصطلحات دورها في تشكيل الهويات القزمية التي تكونت نتيجة الاستعمار الأوربي للعالم العربي، فالهوية الليبية كان من محدداتها تلك المصطلحات التي خلفها الاستعمار الإيطالي لهذه الرقعة الجغرافية التي تسمى ليبيا، فأسماء الأشياء المستحدثة، كقطع غير السيارات، أو أسماء الأدوات نجدها تختلف من بلد إلى آخر، وهي تسهم في تمييز هوية هذا البلد عن ذاك، وسبب الاختلاف يرجع إلى لغة البلد المستعمر الذي ارتبطت به معرفة تلك الأشياء، وقد حاول الاستعمار أن يرسخ هذا الأمر في عقول الشعوب المستعمرة، وقد نجح إلى حد بعيد، رغم محاولات التعريب التي تلت التحرر والاستقلال، فمحاولات التعريب لم تكن موحدة بين الأقطار العربية، فتباينت المصطلحات العربية على نحو حل تأثيره محل التأثير الذي تركته المصطلحات الأجنبية.

فالمصطلحات إذن لها تأثيرها في نفسية الشعوب، بل يمكن أن تؤثر في الطريقة التي يفكر بها الناس ويشعرون بها، ويمكن أن تؤثر في كيفية تصور الناس لمفاهيم معينة، كمفاهيم الحرية، والعدالة، والمساواة، وغيرها، ويمكن أن تعزز الشعور بالانتماء أو الانفصال، بل ولها تأثير عميق في كيفية فهم الجماعات لتاريخها وهويتها.

كما تُستخدم المصطلحات لأغراض سياسية ودعائية، مما يؤثر في كيفية استجابة الشعوب للقضايا الاجتماعية أو السياسية، وعلى سبيل المثال، مصطلح مثل “الحرب ضد الإرهاب” يمكن أن يشكل وعي الناس بالأمن، وأن يجعلهم يفاضلون بينه وبين مفهوم الحرية.

كما أن المصطلحات الجديدة أو المتغيرة يمكن أن تعكس تطورات اجتماعية وثقافية، مما يعكس التغيرات التي تحدث في القيم والمفاهيم الجماعية.

وبالمجمل، فإن المصطلحات ليست مجرد كلمات، بل هي أدوات قوية لتشكيل التصورات والسلوكيات والمشاعر الجماعية، وهي سلاح ذو حدين، لأنها كما تكون سببًا في حفظ الهوية، تكون أداة في يد مجموعات القوى لترسيخ التبعية والسيطرة.

وقد حاول الاستعمار كما أسلفنا إحلال لغته وثقافته محل اللغة المحلية للبلدان المستعمرة وثقافتها، كي تستمر التبعية، وقد نجح إلى حد بعيد، لأن بلدانًا كثيرة في القارة الإفريقية وغيرها باتت ناطقة بلسان جلادها الأول، وقسمت الدول تبعًا لذلك إلى أنجلوسكسونية وفرانكفونية، وتشكلت بذلك هوية الانتماء الثقافي المزدوج، التي أثرت في نمط التفكير، وأسلوب الحياة، بل ونوع التعليم، وحتى إلى المدرسة التشريعية. وأخيرًا فإن أية محاولة للتملص من ربقة هذا الاستلاب الثقافي، وتلك الهيمنة الناعمة يحتاج إلى إرادة نابعة عن قوة، ومنطلقة من أساس سليم من العلم والمعرفة، وليس عن مجرد أحلام وأمنيات، فالله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.

زر الذهاب إلى الأعلى