أمريكا القديمة والجديدة
بقلم / ناجي إبراهيم
محددات السياسة الخارجية الأمريكية مصالحها الاقتصادية، وطموحاتها الإمبريالية، وأمن الكيان الصهيوني.
المتابع للسياسات الخارجية الأمريكية يدرك أثر هذه المحددات الثلاثة على السلوك والنشاط الأمريكي في العالم، ويفهم سعيها إلى السيطرة على البحار والمحيطات والممرات البحرية، وإصرارها على التواجد العسكري في مناطق مختلفة من العالم، وهو ما يفسر سيطرتها التامة والكاملة على المؤسسات والمنظمات الدولية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإنسانية لتستخدمها لتبرير تدخلها في الشؤون الداخلية لعديد من البلدان.
لا يوجد جديد فيما قلته، ولكن رأيت أن أجد تفسيرا نقدمه للقارئ لفهم السلوك الأمريكي ليس فقط فيما يتعلق بدعم الكيان العنصري في فلسطين المحتلة، بل فيما نشهده من تدخلات أمريكية في بلدان كثيرة من العالم من أفغانستان إلى فنزويلا مرورا بليبيا ومنطقتنا العربية وقارتنا الإفريقية والمحيط الهادئ والحرب في أوكرانيا
بناء القدرات العسكرية والتوسع فيها ونشرها في العالم يترجم سياسة أمريكية إمبريالية وتوسعية ويجعلها في صراع دائم ومحموم مع شعوب وبلدان العالم التي ترفض الخضوع والانصياع لتلك السياسات.
لم تتبدل السياسات المبنية على المحددات التي ذكرناها آنفا ربما الذي تبدل أدوات تطبيق هذه السياسات، والتي كانت تعتمد على الأدوات العسكرية والاستخباراتية وحتى هذه لم تتخل عنها عند الضرورة، ونظرًا إلى كلفتها المادية والبشرية وانعكاساتها على توجهات الناخبين، تحولت عنها من خلال بناء قوى محلية بعضها أيديولوجي وأخرى مصلحية، الأمر الذي دفعها إلى تغيير نظم بشكل سلمي عن طريق الصناديق وعنيف في صورة انتفاضات وحروب داخلية تفضي إلى نفس النتيجة التي كانت ستتحقق بتدخلات عسكرية باهظة الثمن اقتصاديا وسياسيا، ولماذا تتدخل عسكريًا وتتحمل نفقات باهظة بشرية واقتصادية إذا وجدت قوى محلية تجنبها هذه التكلفة؟
ما نقدمه من تفسير تترجمه وقائع على الأرض تجري الآن في مناطق قريبة ومجاورة لنا ونلمسها في بلادنا عندما غزت القوات الأمريكية العراق وبمرافقة جيش من العملاء العراقيين وبمجرد سقوط بغداد ذهبت القوات الأمريكية إلى البنك المركزي ووزارة النفط لتسيطر عليهما وتركت باقي المهمات الأمنية لتشكيلات شبه عسكرية عراقية، وكانت الخطوة التالية حل القوات المسلحة العراقية وتقوية القوى والمجاميع المسلحة الإثنية والعرقية والطائفية وخلقت داعش لتصنع منها فزاعة أمنية، وهذا ما طبقته بحذافيره في ليبيا عقب إسقاط النظام عام2011.
انطلقنا في هذا المقال من مدخل نظري لمقاربة الأحداث والتفاعلات التي أحدثتها التغييرات في قيادة البنك المركزي الليبي، والذي يظهر من حيث الشكل أنه موضوع وشأن داخلي والنقاشات والحوارات والاعتراضات والاصطفافات أمر عادي حتى المسلح منها ويعكس ربما توجهات سياسية وإن كان يغلب عليه الأداة الخشنة التي كادت تدخل البلاد في أتون حرب قد تطال مجالات ومؤسسات أخرى، وقد تجر تدخلات خارجية والتي هي موجودة وكانت سببًا فيما جرى ويجري، وما كان ذلك سيحدث لو كان الموضوع شأنًا داخليًا منزوع التدخلات والإملاءات الخارجية.
تفجير أزمة البنك المركزي لم يكن المقصود منه استبدال مدير بآخر، ولكن الغاية هي اختلاق الأزمات وتوليد الصراعات وأطاله أمد الأزمة وكي الوعي الشعبي الذي بات يترقب ما يلفظ به المبعوثون الدوليون وسفراء البلدان المتدخلة في الشأن الليبي، ويهدف إلى تكريس الانقسام والثنائية التي باتت أمرا واقعا ليس بالمقدور الفكاك منه، ولا يخلو تصريح إلا ويؤكد على ضرورة الابتعاد عن الحلول المنفردة وضرورة نفخ الروح في أجساد كنا نظن أنها ماتت أو على أقل تقدير فقدت الشرعية التي تمكنها من المشاركة في صنع القرار الذي يغيب عنه الشعب وتحضر فيه جميع المكونات المخلقة في مطابخ السياسة الأجنبية حتى ما يسمى منظمات المجتمع المدني والمشكوك في غاياتها.
كيف سنخرج من نفق الأزمة ونحن نتسول صانعها إخراجنا منها، وكيف سيخرجنا وهو من أعد لها وهيأ لها المناخات وصمم لها السيناريوهات التي تبقيها أطول فترة من الزمن؟
الأزمة في ليبيا ليست أزمة سياسية، بل هي جهل السياسيين بالسياسة.
تجربة طويلة ومريرة تجاوزت العقد، ما كان لها أن تستمر إلى هذا الوقت لولا طمع الممسكين بالسلطة في مكاسب شخصية على حساب مصلحة الشعب الليبي، الذي يحصد ثمار فشلهم في جميع المجالات، تدنٍّ في الخدمات وغياب أفق للمستقبل، دفعت الشباب إلى ركوب قوارب الموت هروبًا من واقع مزر ومستقبل ضبابي.
تداعيات إقالة مدير البنك المركزي كافية وحدها للوقوف على غياب السيادة وحقيقة تبعية القرار السياسي لمبعوثي الدول الحاكمة في المشهد الليبي، وكفيلة بتوحيد كلمة الأطراف الليبية على ضرورة رفض التدخل والإملاءات الخارجية في الشأن الداخلي الليبي، والإحساس بالمخاطر التي تتهدد ثروات الليبيين.
أما الخارج وعلى رأسه أمريكا فهي ماضية في حماية مصالح شعبها وباتباع سياساتها القديمة وبأدواتها القديمة والجديدة ولن تكون معنية بمصالحنا إذا نحن لم نحمها ولم ندافع عنها.