أزمة المجلس الأعلى للدولة، ما المحكمة المختصة؟
بقلم/ د.عبد المجيد قاسم
مجلس الدولة عبارة عن جسم سياسي، يستمد شرعيته من الاتفاق السياسي ولا يمكن تصنيفه على أنه جسم تنفيذي أو تشريعي، بل هو جسم سيادي، يقوم بدور المراقب للعملية السياسية ويلعب دوره السياسي نتيجة التكتل الموجود فيه، لذا فالقرارات الصادرة عنه أن تكون قرارات ذات طابع سياسي، وهي أشبه بالمواقف التي لا تخضع لرقابة القضاء، والطريق الوحيد للطعن عليها هو عدم الدستورية، أي أمام الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا
تفاجأ الكثير بالصراع الذي اندلع فجأة، وعلى حين غرة، بين مرشحي رئاسة المجلس الأعلى للدولة، هذا الجسم الغريب، الذي يبدو أنه يقوم بدور الأب في قصة العربة الأخيرة من القطار لدوستويفسكي.
وسبب الصراع خلاف قانوني، حول اعتبار أو عدم اعتبار ورقة انتخابية، كانت هي القشة التي قصمت ظهر هذا المجلس، فالورقة كتب عليها اسم المرشح من الخلف، وتم استبعادها من لجنة الفرز بعد تصنيفها كورقة تحمل تمييزًا وفقًا لنص المادة (97) من النظام الداخلي للمجلس، بينما يرى المرشح الذي استبعدت الورقة ضده، أنها ورقة صحيحة.
الإشكالية إذن قانونية، ومردها إلى عدم ورود هذه الحالة ضمن لائحة المجلس، أي حالة ما إذا تم تسجيل اسم المرشح على ظهر الورقة بدلًا من وضعه في الخانة الموجودة على صدرها، فتصنيف الورقة على أنها تحمل تعريفًا أو تمييزًا يستوجب استبعادها من العد هو محض اجتهاد، وطالما أن الأمر محض اجتهاد، فهو باب للخلاف والخصومة والطعن من كل ذي مصلحة.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، وبعيدًا عن النظر في الحالة ذاتها وتكييفها قانونًا، هو: ما المحكمة المختصة بنظر مثل هذا النزاع؟
وقبل الإجابة عن هذا السؤال ينبغي أولًا معرفة طبيعة هذا المجلس، وهل هو تشريعي، أم تنفيذي، أم غير ذلك؟
لقد تأسّس المجلس الأعلى للدولة استنادًا إلى الاتفاق السياسي الموقّع في مدينة الصخيرات المغربية بتاريخ 17 ديسمبر 2015، ودخل حيّز التنفيذ بعد التوقيع عليه من طرفي الحوار، وفقًا لنصّ المادة (67) من الاتفاق السياسي، حيث عقد المؤتمر الوطني العام جلسته الأخيرة كبرلمان للبلاد في الخامس من أبريل 2016، التي أُجرى فيها التعديل الدستوري العاشر الخاصّ بتضمين الاتفاق السياسي في الإعلان الدستوري وفقًا للمادة (65) من الاتفاق، وبهذا تحوّل “المؤتمر الوطني العام” إلى صفته الجديدة “المجلس الأعلى للدولة”.
وقد نصّ الاتفاق السياسي على انعقاد هذا المجلس بعدد 141 عضوًا من أصل 200، تحفّظ عدد منهم على بنود الاتفاق وقاطعوا الجلسات، ومنهم من استقال بحكم انتهاء المدة القانونية المحددة لعمل المؤتمر الوطني العام.
وقد شهدت الإجراءات التنفيذية لتأسيس المجلس انتخاب أول رئيس له، وهو النائب عن مدينة مصراتة عبد الرحمن السويحلي، ونائبيه ومقرّر المجلس، وتم اعتماد لائحة النظام الداخلي للمجلس في 15 مايو 2016م، وتم إقرار موازنته العامة، وقام المجلس بتشكيل لجان متخصصة دائمة تنفيذًا لنصّ الاتفاق السياسي والنظام الداخلي للمجلس، وقام باعتماد هيكله التنظيمي في أولى جلساته في العاصمة طرابلس.
وبعد عام، وحسب اللائحة الداخلية، أجرى المجلس انتخابات جديدة لمكتب الرئاسة، الذي يتكون من رئيس ونائبين، حيث حظي رئيسه عبد الرحمن السويحلي بولاية ثانية، وبعده تم انتخاب خالد المشري الذي ظل في منصب الرئيس لخمس ولايات متتالية بدأت في الخامس من أبريل 2017م، وانتهت بانتخاب محمد تكاله رئيسًا للمجلس في السادس من أغسطس 2023م.
ووفقًا لنص المادة (2) من النظام الداخلي للمجلس فإنه، أي المجلس، “إحدى المؤسسات الرئيسة العليا في الدولة الليبية المنبثقة عن الاتفاق السياسي الليبي، يقوم بعمله طبقًا للإعلان الدستوري المعدل وفقًا للاتفاق السياسي، يتمتع بالشخصية القانونية الاعتبارية، والذمة المالية المستقلة، ويمارس مهامه طبقًا لهذا النظام”.
ويختصّ المجلس وفقًا لنص المادة (3) من نظامه الداخلي بإبداء الرأي الملزم لحكومة الوفاق الوطني حول مشاريع القوانين قبل إحالتها إلى مجلس النواب، وله سحب الثقة من هذه الحكومة بالتوافق مع مجلس النواب، ومن صلاحياته التوافق مع مجلس النواب حول شاغلي المناصب القيادية للوظائف السيادية، بالإضافة إلى وظائف استشارية أخرى.
فالمجلس الأعلى للدولة إذن عبارة عن جسم سياسي، يستمد شرعيته من الاتفاق السياسي، والإعلان الدستوري، ولا يمكن تصنيفه على أنه جسم تنفيذي أو تشريعي، بل هو جسم سيادي، يقوم بدور المراقب للعملية السياسية، ويلعب دوره السياسي نتيجة التكتل الموجود فيه، لذا فالقرارات الصادرة منه إما أن تكون قرارات ذات طابع سياسي، وهي أشبه بالمواقف التي لا تخضع لرقابة القضاء، والطريق الوحيد للطعن عليها هو عدم الدستورية، أي أمام الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا، وهذا الأمر متصور من أعضاء المجلس ذاته، لا من غيرهم، لعدم تصور وجود آثار قانونية لقرارات هذا المجلس، وإما أن تكون قرارات إدارية، كون هذا المجلس يمارس صلاحيات تنظيمية، ويعد من أشخاص القانون العام، لتمتعه بالشخصية الاعتبارية، والذمة المالية المستقلة، وبما أسبغ عليه من شرعية بموجب التعديل الدستوري العاشر.
لذا فالإجابة على السؤال الذي طرح آنفًا، هي أنه طالما لم ينص النظام الداخلي للمجلس على اختصاص نظر الطعون الانتخابية المتعلقة به، ولا يوجد تشريع يحدد طريقة الطعن، فكل ما هنالك أن النظام الداخلي للمجلس أعطى في المادة 37 للجنة الشؤون القانونية صلاحية إبداء الرأي القانوني في التظلمات التي يقدمها الأعضاء، فإن القواعد العامة تكون هي الأجدر بالتطبيق، وهي اختصاص القضاء الإداري بنظر تلك الطعون، لأنها طعون تتعلق بقرارات صادرة عن مكتب رئاسة المجلس، الذي منحه النظام الداخلي صلاحية تنظيمية إدارية في المادة (8) منه، وهي صلاحية إدارة الجلسات والتصويت وإعلان نتيجة الاقتراع داخل المجلس، ولا يتعلق مثل هذا الأمر بصلاحيات المجلس السياسية، بل بما له من سلطة تنظيمية داخل كيانه، برغم أن مكتب الرئاسة في الحالة التي شب عنها النزاع قد رفع الجلسة دون إعلان النتيجة، ويعد هذا قرارًا سلبيًّا يصح الطعن فيه، وتختص به دوائر القضاء الإداري.
ختامًا أقول: إن مثل هذه الأجسام التي تم ابتداعها كحلول وسط، وكنوع من الترضية، وترحيل الصراع إلى مراحل لاحقة هي أجسام هشة، سوف تأكل نفسها من الداخل، وهي تشي لنا بطبيعة العقلية التي تدير الصراع السياسي في ليبيا، والتي ينبغي أن يؤخذ منها مقود المسيرة السياسية، وإلا سوف تجنح بالبلد إلى ما لا يحمد عقباه.