مقالات الرأي

وسائل التواصل والقيم المجتمعية

بقلم/ ناصر سعيد

ما حملته وسائل الإعلام الجديدة “التواصل الاجتماعي”، التي يطلق عليها اختصارًا باللغة الإنجليزية “الميديا أو السوشيال ميديا”.. وقبلها المحطات الفضائية، من آثار سلبية أوقعت الرأي العام ضحية لها، بعد أن أصبحت صناعة استراتيجية للدول وأحد أهم عناصر حركتها، خاصة تلك التي لا تزال تمارس دورها الاستعماري، قد لعبت هذه الوسائل تمهيدًا لمشروع الفوضى الخلاقة دورًا كبيرًا في الإطاحة بالمعتقدات والمفاهيم وبكل الموروثات لتصنع عالمًا جديدًا يقوم على تداول ثقافة الأقليات، ونسف منظومة القيم، وصناعة ثقافة جديدة تعزل من خلالها شعوبًا عن ماضيها وعن كل ما حملته من إرث حضاري، وهي تعمل على نحو: “كيف تخدع؟ كيف تصنع وهمًا وتجعله واقعًا؟ كيف تستغل حالة انعدام الوعي؟ كيف تخترق مجتمعًا وتمزق عناصره الثقافية والنضالية؟ كيف تنتج إعلام “ميديا” لسياسة كاذبة وتحويلها إلى حقيقة.

وفى السياق كتب رفيق نصر الله في كتاب “ميديا الحرب الناعمة” إن نظرية الاحتلال الفكري جاءت لتؤلّف شكلًا جديدًا من الحروب بعد أن قدمت مراكز أبحاث ودراسات رؤاها لحروب المستقبل التي أجمعت على أن الحروب العسكرية التي تقوم على نظرية الاحتلالات والاجتياحات والقيام بعمليات إنزال لن تتمكن من تكريس السطوة السياسية والاقتصادية، إذ لا بد من خوض حروب متنوعة تترافق وزمن العولمة الاقتصادية والفكرية وإحداث انقلابات في المفاهيم والقناعات، وهذا لا يمكن تحقيقه بالسطوة العسكرية المباشرة بل باستخدام (جيوش أخرى) لا ترتدي الزي العسكري ولا تستخدم الطائرات والدبابات والصواريخ المتطورة التي يمكن أن تستخدم في مراحل لاحقة وليس كأولوية”.

نستخلص مما تقدم فعلًا أنها حرب تستهدف الذاكرة وإلغاء القناعات، حرب ضرب الهويات الوطنية والقومية للشعوب والمجموعات، وأخذ الشعوب إلى عناوين خادعة قادرة على إحداث الجذب ودفع هذه الشعوب إلى البحث عن بدائل غير موجودة وتكاد تكون افتراضية، وتقوم على وهم ملون، مدهش جاذب، محرك للمشاعر ولاغ للانتماءات والموروثات.

هذه الحرب الناعمة تقوم على مبدأ قلب الحقائق وتزييف الوقائع وتبديل مفاهيم التعليم وشل الذاكرة اليومية من خلال اغتيال كامل للموروثات الثقافية، ليس عبر (تناسيها)، بل عبر التشكيك فيها أيضًا، ومن ثم لاستدراج الغرائز الدينية والمذهبية والإثنية والعرقية والإقليمية والشوفينية الضيقة وحتى العائلية لتنفجر دفعة واحدة فتخلق نوعًا من المتاهات لمجموعات من فئات الشباب التائه والعاطل من العمل والمهزوم بداخله بسبب النكسات السياسية والاجتماعية التي يعيشها، وبسبب حالات التجييش التي قامت بها مجموعات جرى تدريبها بإتقان في مراكز متخصصة تديرها دوائر مشبوهة في ارتباطها بقوى الاستعمار القديم، لتشكل التفاعل السلبي في البنى الاجتماعية والسياسية وتتناغم في لعب دورها مع شاشات ملونة باتت قادرة على صناعة رأي عام متقلب، وقادرة على تحريكه، بل وصل الأمر إلى إدارته ليس على مستوى الشارع فقط، بل على مستوى تحريك صراعات العنف الأهلي بجميع أشكاله، وسرعان ما وجد هذا الرأي العام نفسه ضحية أمام هذه الصرعات التي طالت يومياته فصار ضحية لها على قاعدة ما قاله جورج فيدل “الرأي العام مثل الأسماك التائهة في المحيطات المظلمة، نحن نعطيها الضوء فتأتي إلينا ونأخذها حيث نشاء”.

لقد ساهم هذا الانقلاب التكنولوجي الجديد بكل أدواته في قلب الموازين، وضرب القناعات وبدأ انحسار الموروث السياسي والثقافي، إلى أن تفقد الهويات الوطنية لدول عدة ما سيخدم المخططات المرسومة لتصل المنطقة إلى حالة من العراء الفكري والثقافي والاستلاب.

زر الذهاب إلى الأعلى