أ. د. محمد أحمد الديك
ورد في القرآن الكريم عدة صور للخطاب الإعلامي حمله الرسل والأنبياء للملوك والأباطرة ما هي دلالاته وما احتوت عليه من معاني؟
: المجتمعات التي تعزف عن القراءة والفهم واكتساب المعارف بعمق وإدراك وبناء الثقافات، هي أمة مفلسة ولن تساهم في بناء الحضارة الإنسانية، وستظل على هامش التاريخ أمة مستهلكة لا أكثر، وربما لا حاجة لوجودها على الكون، فالله سبحانه وتعالى ميز الإنسان بالعقل دون سائر المخلوقات، وحمله مسؤولية أخلاقية في التعامل مع غيره من البشر، ارتبط التواصل الاجتماعي بين الأفراد والجماعات والحكومات والدول بالخطاب والمكاتيب في عدة صور مختلفة، والخطاب كوسيلة تعبير في حد ذاته فهو قديم بتكون مع المجتمعات البشرية، ولنا في القرآن الكريم الدروس والنصوص في وضع الأسس في الخطاب بين الأنبياء وبقية الناس، فمن المهم التعرف على منهج التفكير في بعض المسائل العقدية التي أسست للغة الحوار وإرساء مبادئ الخطاب الدبلوماسي، من بينها: أن الله سبحانه وتعالى أرسل نبيه موسى إلى أكبر طغاة ذلك العصر، حيث قال الله تعالى: “إذهب إلى فرعون إنه طغى وقل له قولاً لينا”. إنها صيغة في قمة الروعة في الخطاب تمثل فيه الأدب الأخلاقي وروح الحديث والحوار والنصيحة حتى مع العدو.
ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة وقدوة حسنة في أسلوبه وخطابه المرسل للبشر كافة، غير وتحمل من أقرب الناس إليه ومن عشيرته الأذى لكنه تحمل وهزمهم بسمو أخلاقه، وما أحوجنا لدراسة كل تلك المعاني الأخلاقية.
كيف يتم توظيف الخطاب الديني لأهداف سياسية؟
:إن مسألة أختيار أي دين تظل حالة فردية، وقناعة شخصية وليس فيها إجبار، فالخالق سبحانه وتعالى غني عن عبادة جميع المخلوقات التي اوجدها، والرسل والأنبياء لا يكرهون أي فرد على اتباعهم، بل كانت دعوتهم خطابية سلمية لا إكراه فيها، ومعظم الرسل نجد أنهم ماتوا واتباعهم اعداد قليلة مقارنة بمن كانوا يعارضون ويكفرون به. ولكن عندما تحولت الديانات إلى توجهات وأيدولوجيات ومذاهب سياسية، رأينا كيف حول الإمبراطور قسطنطين شعبه الروماني الوثني إلى الديانة المسيحية، ليس لقناعته بالدين ولكن رأى فيه مشروعاً يحقق سلطته وأحلامه في الهيمنة وامتلاك العالم، كما فعل الأسكندر المقدوني من هنا جاء المثل (الناس على دين ملوكها) .
وإن ما قامت به وتقوم به مؤسسة البابوية ثم الفاتيكان من مظاهر تبشيري، يرتكز على أسلوب الترغيب والترهيب، فالخطاب الذي تبنته بزعم تخليص بيت المقدس غذى شعور اتباعها بالحقد والغل على غيرهم من اتباع الديانات الأخرى، وزجت بهم في حروب طويلة دامية فقط من أجل قبول دينها ومعتقدها، استمر هذا المنهج والسلوك مع الهجمة الاستعمارية في العصور الحديثة، فالخطاب الإعلامي الديني كان رافداً للتوجه السياسي في استعباد الشعوب وإحتلال أراضيها وامتصاص خيراتها وثرواتها، بدعوة تحضيرها وهدايتها للدين، وسخرت لتلك المشاريع الاستعمارية الأموال الطائلة، مستغلة الصحف والمنابر وكل الوسائل السمعية والمقروءة لإرسال خطابها للمتلق.
إلى أي مدى تمكن الخطاب الإعلامي من تحقيق أهدافه في دعم ظاهرة الإستعمار؟
: إن ليبيا كغيرها من البلدان ابتليت بشرور ذلك الخطاب الإعلامي من الصحف الإيطالية الرسمية التي بالغت بأهمية ليبيا، وما تملكه من ثروات وخيرات ووصف أهلها بأنهم متخلفون ومتعصبون من هنا كانت الدعاية هو تحريرها من الأتراك واحتلالها وضمها لإيطاليا، وتم تعبئة الرأي العام الإيطالي وتبنته قطاعات ومؤسسات وخصصت الأموال والبنوك لتحقيق هذا المشروع الذي تخجل إيطاليا اليوم من تدريسه في مؤسساتها التعليمية. هل تعلمون أنهم يقولون الحرب الإيطالية التركية.
وعندما ندرس الخطاب الإعلامي الأوروبي والإيطالي بشكل خاص، ودوره التحريض في كسب الراي العام، هناك أدوات وأساليب وامكانات توفرت، فالشعب الإيطالي تم تعبئته وجدانياً وصار الجندي الإيطالي يفتخر بالمجيء لليبيا للحرب، وتبارى الشعراء والأدباء في تهييج شعور الحماسة للجنود لسحق الأمة الإسلامية في ليبيا، وتطوع الالاف من الشباب لخوض حرب لا يعلم أنها خاسرة على المدى البعيد، وإن الشعوب قد تكون نادمة عن تلك الحقبة، فهي لم تعد تحتفي بالطواغيت ولا تخلد ذكراهم الذي دمروا بلدانهم وانهكوا شعوبهم في حروب مخجلة، فأين هو النمرود وهتلر وموسوليني وغيرهم.
قد يلعب الخطاب الإعلامي دورا في تعزيز الوحدة الوطنية فهل استطاع الليبيون تجاوز مشاريع التقسيم؟
هناك شعور وإحساس من بعض الليبيين من الفرقاء الساسة حين يشعرون بان مصاحهم الشخصي مهددة، يروجون ويلوحون بتقسيم البلاد، نقول أنه من الناحية التاريخية وحتى في ظل الاستعمار الأوربي، كل محاولات التقسيم فشلت لماذا؟، كانت نتائج الحرب العالمية الثانية على ليبيا وخيمة ومخيبة للرجاء، لكن الحركة الوطنية كان لها دور كبير ونشط من خلال الخطاب الإعلامي في التعريف بالقضية الليبية على كل المستويات المحلية والإقليمية والدولية. وبالفعل جرت عدة محاولات لتقسيم ليبيا وفرض الوصاية عليها سنة 1948م من قبل الدول المنتصرة في الحرب والتي عرفت باللجنة الرباعية التي جاءت بها الأمم المتحدة لإستقصاء رأي الليبيين بين الاستقلال وقبول الوصاية، وفشلت ثم جاءت المؤامرة الكبرى الموسومة بمشروع بيفن/سفورزا سنة 1949م والذي قوبل بالرفض وطنيا ودوليا وهذا بفضل قوة الخطاب الإعلامي الذي أثر في الرأي العام. وليبيا كجزء من الأمة تتأثر بشكل مباشر لما يحدث في أي بلد عربي وإسلامي. ومن أهم الأحداث التي تفاعل معها الليبيون من خلال ما نشرته الصحافة العربية في توعية الرأي العام في ليبيا أثناء الإحداث الجسام، وفي مقمتها تعرض مصر للعدوان الثلاثي سنة 1957م ، الأمر جعل الرأي العام يضغط على الحكومة باتخاذ موقف مؤيد لمصر ومعارض لبقاء القواعد الأجنبية. وفي سنة 1964م شهدت ليبيا حدثاً خطيراً على المستوى المحلي خروج مظاهرات عارمة بسبب أحداث يناير، ثم تداعيات هزيمة 1967م، وكان لخطب جمال عبد الناصر باسلوبه الحماسي التعبوي التحريضي، تدخل في شؤون ليبيا الداخلية بقوله:” إن الشعب العربي ينتظر اليوم الذي تحتفل فيه الأمة العربية بالجلاء الكامل للقواعد الأجنبية من ليبيا” وتبنى صوت العرب من القاهرة تلك الخطب، في التهجم على النظم الموالية للغرب التي تكرس الاستعمار الجديد، المتمثل في القواعد العسكرية الأجنبية.
هل كان هناك تأثير الحرب الباردة على الدول الصغيرة؟
:سمعنا عن الحرب الباردة بين المعسكر الشرقي والغربي وهي حرب إعلامية، لكنها ظلت وما زالت حرب ساخنة في مناطق من العالم خارج هذين المعسكرين. وحين بدأت القوى الوطنية المتنورة تنفض غبار الحقب المظلمة من مستعبديها، وترفع لواء وشعار التحرر والاستقلال عبر الصحف والأحزاب السياسية، واتخذت من التوجه الإشتراكي التقدمي (الاتحاد السوفيتي) منهجاً بزعم انه يدعم حرية واستقلال الشعوب، كانت ردة فعل القوى الغربية حاضرة وجاهزة لمواجهة هذا التوجه وهذا التيار، من خلال زعزعة أوضاع الإنظمة في الدول الإسلامية، وتحذيرها من خطر الفكر الشيوعي الهدام للدين والأخلاق حتى سنة 1989م.
ما مدى فاعلية وسائل الإعلام التقليدية في في خلق الرأي العام؟
: من الأسئلة المطروحة للنقاش التي تخص الجانب الإعلامي، بدأت تتلاشى قيمتها فبالأمس القريب كانت الإذاعات التلفزيونية والراديو الرسمي هدفاً للانقلابين فيكفي بيان من عسكري في الإذاعة قادر على تغير نظام دولة في لحظات، وكانت الإذاعات الرسمية تمثل بوقاً للنظام ولطرح الأفكار الإيدلوجية. كل هذا كان في الماضي القريب ولكن اليوم فقدت هذه المؤسسات قيمتها ولم تعد هناك حاجة لجيوش لحراستها، فثورة الإتصالات أبطلت مفعول الوسائل التقليدية، واصبح ميسوراً جداً الحصول على المعلومات من مصادر مختلفة في سرعة البرق ومن عدة مصادر وخارج سلطة الدولة.
هل ضعف الخطاب الإعلامي أثر بشكل عام في سلوك الناس، ولم يعد بشكل رأي عام له وزنه وتأثيره كما في السابق، فهل الخطب الجمعية وهي أسلوب ومواعظ وعبر والتي كانت تؤثر في شعور المتلقي وينقاد لبعض المواعظ، هل هي أيضا صارت من الماضي، فهل يعود ذلك التراجع لكمية ضخ المعلومات وتنوع الثقافة وكثرة الإطلاع من عدة وسائط ومصادر التي نتلقاها بكل يسر وسهولة، هل نعدها البديل لهذه الخطب الجمعية.
هل للخطاب الإعلامي دور في اقتصاد الحرب؟
: ومن الأسلحة الفعالة في الخطاب الإعلامي العامل الاقتصادي الذي اثبت نجاعته إلى حد كبير، وهي المقاطعة الاقتصادية للعدو ومن يناصره ويدعمه،. فالحرب الإعلامية الاقتصادية نجحت إبان الثورة الجزائرية وغيرها، واليوم فالرأي العام الدولي لم يعد مخدوعاً بالدعاية الغربية الصهيونية في محاربة الإرهاب، فالمشهد اليومي في غزة كشف هذه الحرب المسعورة الظالمة ضد شعب اعزل.
إن أسلوب المقاطعة ينبغي أن يتحول إلى ثقافة واسعة، ووسيلة للانتصار للقضية الفلسطينية عبر كل الوسائط الأهلية والرسمية.