الفراغ العائلي.. والترف الافتراضي (1)
بقلم / ناجية الصغير عبدالله
لقد أصبحنا نرى في وقتنا الراهن كيف تطبق مقولة أن العالم يصبح كقرية واحدة بفضل التطور التكنولوجي الذي يقرب المسافات أكثر من الطائرات والقطارات.. أصبحنا مطلعين على مختلف الثقافات العربية والغربية أو الأجنبية، وبات هناك تداخل ثقافي رهيب يجعلنا لا ندرك ما لنا وما علينا!
الأسرة التي هي ملاذنا من ضغوطات الحياة ووسيلتنا للتنفيس عن قلوبنا صارت أيضًا في مهب الريح تتلاعب بها أمواج التقنية جيئة وذهابًا، تفقدها الكثير وتمنحها القليل والحجة ضريبة الحضارة.
فهل حقًّا للحضارة ضريبة أم هي شماعة نعلق عليها سقوطنا التربوي المتراكم كي لا تحاسبنا أنفسنا ولا ينعتنا الجيل القادم بالتفريط؟
ثم لماذا دون ضوابط سلم الأهل أنفسهم لها بطواعية مطلقة وتركوها تدخل حتى أدق التفاصيل الحياتية؟
ماذا تعني كلمة الخصوصية الأسرية؟ ولماذا هكذا وبكل بساطة فقدت وصارت البيوت ملاعب مفتوحة رغم كثرة الأبواب والأقفال؟
في لغتنا العربية تشترك الكلمات بالحروف التي تبتدئ بها، لكنها لا تتفق في دلالاتها ومعانيها، فرب كلمة تجعلك في غاية الانسجام والتسامح مع نفسك، ورب كلمة ترديك فريسة الأمراض النفسية والاجتماعية وأحيانًا الجسدية.
بيوتنا بيت الداء والدواء، قد تكون جنتنا وقد تكون جحيمنا، وما بين الجيمين شتان.. البيوت التي يتميز الأهل فيها بمرونة التعامل مع مجريات الأحداث مهما كانت صعوبتها، من حالة مادية إلى نفسية إلى ثقافية هي بيوت لها القدرة على التجديف حتى بوحل الحروب والوصول بأولادها لبر الأمان حتى بنسبة ثمانين بالمائة.. أما تلك التي تترك بابها مفتوحًا لكل ريح تهب ولا تعرف معنى التكيف والتعامل مع مستجدات الحياة هي في الغالب أسرة مضطربة مرتبكة بها خلل من ألِفها إلى الياء، خاصة وإن كان ولي الأمر من الشخصيات سريعة الانفعال والتي تغرق بشبر ماء.
الحياة بوتيرة متسارعة بلا رحمة ولا شفقة سريعة لا تتنظر، والغالبية العظمى من العوائل يعيش بنظام السلاحف الفكرية التي تمر عليها الأعوام والعقود ولا تتبدل في منهجية تربيتها ولا أسلوبها.. فكل شيء قابل للتبديل والتطوير فيها حتى طعامها ولباسها وهيئتها، ولكن فكرها يبقى متخلفًا بلا نهاية، تريد دومًا التطور الخارجي في حين تطبق الجمود الداخلي فيبقى الأولاد بين الممنوع والمرغوب عرضة لكل شيء، ويبقى الممنوع غاية وهدفًا حتى يتمكنوا من ملامسته والتعرف عليه حتى ولو كان الممنوع يعرفون سلفًا أنه مؤذٍ.
الشباب بوقتنا الراهن كسروا حاجز الممنوع رغمًا عن الأهل وصاروا يفرضون الثقافة المستوردة التي تسد فراغهم وعجزهم الفكري بأي طريقة كانت، فنتج عن ذاك إفرازات مجتمعية مهلكة، فنجد المدمن والمتاجر والسارق وصاحب العصابة والمتعدي والقاتل ومن يتطرف ويتعمق حتى يكون هذا الولد الذي فرحوا بقدومه هو ذاته الذي ساهم بقتلهم وإرهابهم وترويعهم، هو ذاته الذي جعلهم لاجئين ومشردين، فهل نلوم أنفسنا على التقصير وتركهم للجحيم أم نلوم العالم المتسارع بتقنيته، أم نقف هكذا متفرجين دون حراك؟
بيتك جنتك.. أنت من تملكه، ولك أن تعمل له الصيانة الدورية التي تلزمه، بشكل يومي أو أسبوعي أو شهري أو سنوي، حتى لا يتآكل بصدأ الروتين والجمود، وحتى لا تأتي عليك الدنيا راغمًا وتسرق منك أمانتك التي أوصاك الله بها وأنت غافل غير مهتم، العصر محشو بالرذائل كما هو محشو بالجمال فاختر الجمال لجنتك، وأبعد الجهل بجحيمه، لأن من تفعل ذلك لأجلهم يستحقون، حتى تكون الثمرة ناضجة مكتملة جميلة المنظر ولذيذة المذاق بجوهرها.. حتى لا يزيد الألم للأرض بتعداد الجهلة والمستهترين الذين لا يردعهم شيء ولا يحسبون حسابًا لشيء ولا يعني لهم الخراب والدمار شيئًا؛ جميع أفعالهم بحجة الحضارة والارتهان الثقافي الذي يعيشون.
لا عدو للإنسان كالجهل، فهو وباء إن حل أصابنا الانحلال، وإن ابتعد ملكنا السلام.. السلام الداخلي الذي نفتقده في أنفسنا وبيوتنا بسبب جهلنا كيفية التعامل مع الأزمات والعثرات والنوائب.
ما بين جيم وجيم القرار متروك لمن يلدون الجيل ويقررون بمحض إرادتهم تكوين أسرة، فهل يعقلون أي جيم يسعون إليها أم هي عقول خاوية تمضي وهم لا يدركون!
للحديث بقية.