مقالات الرأي

في استعادة الدولة!

بقلم/ مصطفى الزائدي

رغم ما يروجه السطحيون، أنا لست ضد الانتخابات من حيث المبدأ، لكن في قناعتي أن استعادة الدولة بعد الأزمات المدمرة، مسألة معقدة وصعبة، تحتاج إلى جهود جماعية، وبوسائل متعددة، ليست الانتخابات الوسيلة الوحيدة لها.

‏علق أحدهم على هذا الرأي الذي أطرحه، باستهزاء، ففي مقال مطول بلغة إنشائية منمقة وبين جمل كثيرة من الغمز واللمز التي لست في وارد التعليق عليها، وصف قولي بأن الانتخابات ليست وسيلة وحيدة لتحقيق الاستقرار من العدم إبان الأزمات بأنه ترويج لحكم عسكري شمولي، ولست أدري كيف أقنع نفسه بذلك، لكنه لم يورد مثلًا واحدًا لأي دولة في التاريخ القريب ولا حتى البعيد نجحت في الخروج من أزماتها بإجراء انتخابات قادت مباشرة إلى الاستقرار ومهدت إلى حالة من الرقي والازدهار.

الانتخابات في كل الأحوال هي أمر مستحدث، وليس ضاربًا في أعماق التاريخ، لنبحث في أمثلة من الماضي البعيد، فهي وسيلة مناسبة لتطبيق فكرة التداول على السلطة سلميًّا في الدول المستقرة، رغم أن ذلك التداول في أحيان كثيرة لا يكون سلميًّا ويتحول إلى صراع دامٍ.

‏ولكي أكون حاسمًا ومقنعًا في تعليقي حاولت أن أراجع الدول التي حدثت بها أزمات مشابهة لما حدث في بلادنا من الصومال إلى أفغانستان إلى العراق إلى الدول الإفريقية إلى الدول اللاتينية إلى الدول الأوروبية الشرقية، فوجدت أن جميعها إما غارقة في مستنقع الفوضى أو تحولت إلى أنظمة دكتاتورية أو حلت وتجاوزت أزماتها بطرق أخرى اعتمدت على فرض الاستقرار بالتوافق أو بالقوة.

‏دول أوروبا الشرقية التي ضربها ربيع براغ المصمم غربيًّا، تحولت بشكل كامل إلى جزء من منظومة الناتو الحربية، وذلك ما كان هدفًا أساسيًّا لذلك الربيع الشرقي.

كما وجدت أن الانتخابات هي أحد الأساليب التي يحاول الغرب فرضها على الشعوب لاستدامة الأزمات وليس حلها، والحال بيِّن في الانتخابات التي جرت في ليبيا أو شبه الانتخابات في الصومال أو الانتخابات في أفغانستان قبل عشرين عامًا، قبل أن تنجح طالبان في طرد الأمريكان منها أو ذلك الذي كان في فيتنام الجنوبية قبل أن ينجح الفيتكونغ في تحريرها من القوات الأجنبية، وكذلك انتخابات العراق.

‏في أحيان أخرى تستخدم الانتخابات لخلق الأزمات كأحد أساليب عودة الاستعمار الجديد بطرق ناعمة، لربط الدول التي خرجت من نير الاستعمار القديم بالغرب المهيمن، وهذا ما جرى في إفريقيا وبلدان أمريكا اللاتينية أو بعض البلدان الآسيوية التي كانت مرتبطة بالاتحاد السوفيتي سابقًا.

سيقول صاحبنا وربما آخرون، هذه نظرية مؤامرة لا تستند إلى تحليل منطقي، وهذا قول صحيح لو استندنا في التحليل فقط إلى مفردات اللغة والمنطق ومن خلال المقالات، أما إذا ذهبنا إلى الواقع ودرسناه وحللناه فربما نجد شواهد أكثر، فالحرب الأهلية في إسبانيا في ثلاثينيات القرن الماضي أفرزت نظام فرانكو الفاشي الذي استمر لعدة عقود، ورغم قسوته وفظائعه فرض الاستقرار في شبه الجزيرة الإيبيرية ومكن بعد ذلك من إجراء انتخابات لا تزال هشة ولا يزال الصراع كامنًا فيها، فالكاثلان والباسكيين ما زالوا يشعرون بالظلم ويناضلون لتحرير أقاليمهم من سطوة الإسبان.

الدول المستقرة التي يقوم نظامها منذ مئات السنين على الانتخابات الاستقرار بها في الواقع ليس ناتجًا فقط عن الانتخابات، بل بسبب وجود مؤسسة حاكمة غير منظورة هي التي توجه الانتخابات وتحدد نتائجها وتفرضها، كما حدث في الانتخابات النمساوية في تسعينيات القرن الماضي، حيث فاز اليميني هايدر، فحوصرت النمسا وأجبرت على إعادة الانتخابات وإبعاد اليمين بالضغط وليس بإرادة الشعب، دليل آخر على هشاشة وضعف قدرة الانتخابات وحدها في فرض الاستقرار، عندما خسر ترامب انتخابات 2020 احتل أنصاره الكونجرس وعبثوا به وتهدد النظام في قمته، مما اضطر المؤسسة الحاكمة المخفية إلى إنزال الحرس الوطني وبعض من وحدات الجيش لإعادة الاستقرار وقمع الفوضى.

الأزمة الليبية حتى وإن لم نرَ حاجة لمقارنتها بغيرها، أزمة يصعب الخروج منها بانتخابات، ولقد أجرينا الانتخابات مرتين، والنتيجة بعد 10 سنوات من آخر انتخابات واضحة، فالوضع أسوأ بكثير مما كان عليه قبل إجراء أول انتخابات في يوليو 2012.

السؤال الذي يستند إليه المقال ويطرحه آخرون لا شك، إذًا ما المخرج؟

هل الحرب والحكم العسكري بديل مناسب لفرض الاستقرار؟ الحقيقة أن الحرب تكون ضرورة إذا فشلت العمليات السياسية الأخرى في تجاوز الأزمة، لكن في تقديري لم نستنفد كل الوسائل بعد، فرغم فشل محاولات التوافق في الماضي بسبب العبث الأجنبي بها، قد نستطيع، إن حسمنا أمرنا وتوكلنا على الله وعلى أنفسنا، أن نخلق توافقًا وطنيًّا على بناء دولة مستقرة دون الحاجة إلى خوض الحرب، وبالتأكيد هذه في ذاتها معركة مهمة وصعبة تحتاج إلى جنود شرفاء وقادة مخلصين، وهذا ما نتوقعه في النخب الوطنية على الساحة، ونتمناه في القوة المسلحة الموجودة على الأرض، وما نتوقعه من الشعب الليبي الذي ملَّ الفوضى ويخشى استمرارها ويخاف عواقبها على ليبيا كدولة موحدة وعلى بقاء الشعب الليبي بكل قبائله مكونها الأساسي.

زر الذهاب إلى الأعلى