ملحمة غزة
بقلم/ محمد بوخروبة
استخدمت إسرائيل جبروتها العسكري لإلحاق أكبر خسائر بشرية في الفلسطينيين وتدمير عمرانهم وهدم بيوتهم، وعملت على حرمانهم من كل ممكنات العيش من الماء والكهرباء والغذاء والوقود والدواء والمأوى، بهدف واضح ومحدد هو تحويل قطاع غزة إلى مكان غير صالح للعيش ودفع الغزاويين إلى تركه
ماذا نسمي صمود وتصدي بضعة آلاف من المقاتلين الفلسطينيين طوال ثمانية أشهر في مواجهة أعتى قوة تدمير وقتل وعنصرية، بل تصديهم لأكثر الجيوش الحديثة تسلحًا ودموية، يدعمها الغرب الاستعماري بكل أنواع الدعم العسكري والسياسي والإعلامي والمالي؟
ماذا نسمي هذا الصمود الأسطوري، وهذا الاستبسال في معركة الحصار والتدمير والقتل والتجويع، وقطع الماء والدواء والغذاء وخذلان الأهل والجيران؟ هل لهذا الصمود والاستبسال اسم أو صفة تليق بأهله غير الملحمة وغير المعجزة؟
أليست معجزة وملحمة أن تواجه غزة منفردة أقوى جيوش العالم وأعتى وأفتك آلات الحرب والتدمير طوال ثمانية أشهر وهي لا تزال صامدة باسلة؟
أليس على المؤرخين والكتاب والأدباء في جميع أنحاء العالم أن يخلدوا هذه الملحمة لتكون قدوة ومبعث إلهام وفخر لجميع الشعوب المقاتلة من أجل الحرية والكرامة؟
بعد تسعة أشهر على الحرب التي تشنُّها إسرائيل في غزة، مستغلة في ذلك العملية الهجومية التي شنتها حركة حماس، باتت أهداف تلك الحرب، غير المسبوقة، غاية في الوضوح على أرض الواقع، رغم تعمد حكومة بنيامين نتنياهو إرسال إشارات غير واضحة عن حقيقة مراميها، مركزة في ذلك على استعادة مخطوفيها أو أسراها، واستئصال خطر حركة حماس والحؤول دون تكرار مثل تلك العملية مستقبلًا.
على ذلك، فإن البحث في الأهداف الحقيقية للحرب لا تكمن في تصريحات المسؤولين الإسرائيليين، الكثيرة والمتضاربة، وإنما في أشكال الحرب التي اعتمدوها واستهدافاتها ونوعية أسلحتها ومجمل تداعياتها، سياسيًّا وأمنيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا.
ومنذ الأيام الأولى وطوال الأشهر الماضية، استخدمت إسرائيل جبروتها العسكري لإلحاق أكبر خسائر بشرية في الفلسطينيين وتدمير عمرانهم وهدم بيوتهم. وعملت على حرمانهم من كل ممكنات العيش، من الماء والكهرباء والغذاء والوقود والدواء والمأوى، بهدف واضح ومحدد هو تحويل قطاع غزة إلى مكان غير صالح للعيش ودفع الغزاويين إلى تركه، يقدر بعضهم أن ثمة 200 ألف غزّي تركوا القطاع بعد دفع مبالغ طائلة.
هذا الوضع لا يلغي أن الفصائل الفلسطينية ظلت تقاتل وتشتبك وتقصف، وأن إسرائيل لم تستطع تحرير أسراها، إلا أن المقارنة لا تقاس بين ما استطاعته المقاومة وما فعلته إسرائيل في قطاع غزة وفي أكثر من مليونين من الفلسطينيين من سكانها الذين اختفى عالمهم، وليس ثمة شيء بقي لهم كي يعودوا إليه، في اليوم التالي للحرب.
الناحية الأخرى، التي يفترض الانتباه إليها هنا أن إسرائيل تحاول عبر نموذج حربها في غزة، ترويع الفلسطينيين وإخضاعهم لإملاءاتها، من النهر إلى البحر، والتخلص نهائيًّا من فكرة الدولة الفلسطينية التي ترى أنها ستقوم على حساب إسرائيل كدولة يهودية وهو الهاجس الذي تملَّك نتنياهو منذ صعد إلى رئاسة الحكومة في حقبته الأولى.
مع ذلك، فإن فكرة اليوم التالي للحرب، هي فكرة مخاتلة فعلًا، إذ ما الذي سيبقى للفلسطينيين بعد تلك الحرب، حتى لو انسحبت إسرائيل كليًّا أو جزئيًّا. إذ إن تلك الفكرة تتحدث عن الواقع السلطوي الذي سينشأ، وليس عن حال فلسطينيي غزة، الذين سيجدون، في اليوم التالي، أن القطاع بات منطقة خراب مهولة، كأكبر منطقة خراب في العالم، وأكبر مقبرة في العالم، وأكثر مكان لا يمتلك فيه الناس مأوى أو مصدر عمل، أو مقومات حياة، باستثناء ما قد تجود به المساعدات الخارجية، التي بالكاد تُمكّن من تبقى في غزة من العيش.
وفي الختام، يكرر نتنياهو اعتراضه على إقامة دولة فلسطينية من جانب واحد، أي لا حماسستان ولا فتحستان.
واحتلال غزة ونشر القوات الإسرائيلية هناك على المدى الطويل، إلى جانب إنشاء إدارة مدنية أو تطبيق الأحكام العرفية.
والسماح للسلطة الفلسطينية المتجددة باستئناف السيطرة على غزة، وهو الخيار المفضل لدى الولايات المتحدة والدول العربية والمجتمع الدولي.
وتحويل غزة إلى محافظة فيدرالية مع السلطة الفلسطينية، وتعزيز السلطات المحلية في غزة، وإنشاء إدارة تكنوقراط لإدارة قطاع غزة، تحت رعاية السلطة الفلسطينية وإلزامها باتفاقات مسبقة.
أي حكومة وحدة وطنية فلسطينية تضم أو تدعمها فتح وحماس، ليصبح قطاع غزة كيانًا إقليميًّا منفصلًا، غير مرتبط بالسلطة الفلسطينية أو الضفة الغربية.
وفي الأساس فإن ما تقدم، ومع كل التقدير لصمود المقاومين وتضحياتهم، لا يغمط حقيقة ساطعة مفادها أن الشعب الفلسطيني هو الذي دفع الثمن الباهظ لتلك العملية، وليس حركة “حماس”، وذلك وفقًا لتصريحات قادة تلك الحركة، بل إن فلسطينيي غزة دفعوا كل شيء من حيواتهم وعمرانهم وما يمتلكونه، بغض النظر أكان بعضهم يتوافق مع “حماس” أم كان بعضهم لا يتوافق معها.