مقالات الرأي

دعه ينجح دعه يمر

بقلم/ عبد المجيد قاسم

الفساد سببٌ لانهيار الدول، وهو ليس مجرد التجاوزات المالية، أو المخالفات الإدارية، بل هو ذلك الانطباع العام، والرضا المجتمعي عن هذه التجاوزات وتلك المخالفات، بحيث تصبح هي السلوك الطبيعي، وعداها، أي عدم التجاوز، وعدم ارتكاب المخالفات هو السلوك غير الطبيعي الذي يذم فاعله.

فهذا هو الفساد المقصود في معرض الحديث عن الفساد، ومؤشراته، وضرورة مكافحته، والقضاء عليه، وما إلى ذلك.

في التاريخ، كان الفساد سببًا رئيسًا، إن لم يكن السبب الأول، في انهيار الدول، فدولة الخلافة انهارت بسبب الوساطة والمحسوبية التي استشرت في زمن الخليفة عثمان بن عفان، وبسبب التصرف في المال العام على نحو مغاير، فحدثت الفتنة، وقتل من قتل، وذهبت دولة الخلافة ليأتي الملك العضود، فكانت الدولة الأموية التي استمرت حتى استشرى الفساد المالي والأخلاقي، لتنهار وتحل محلها الدولة العباسية، التي أدى الفساد السياسي في نهايتها إلى تفككها، وانهيارها باجتياح التتار أراضيها ومدنها، وتخلل الزمان دول تقوم إحداها لتنهار بسبب ما يعتريها من فساد، وكان آخر الأمر بقيام دولة بني عثمان، التي عصف بها الفساد لتنهار وتصبح أملاكها وأراضيها نهبًا للاستعمار الأوروبي، ليؤول الأمر إلى أقطار قزمية لا حول لها لا قوة.

فالفساد إذن جرثومة، تضرب جسم الدول لتعتل، وتشيخ، وتنهار، وهي تأتي غالبًا في مرحلة ما بعد الاستقرار، فالدولة تكون فتية في مرحلة البناء، ويصاحب البناء معارك تزيد من قوتها، ثم تستقر، وتهدأ، وتدخل مرحلة الترف الذي يستدعي الفساد، والدولة في هذه المرحلة تكون قد تعدت مرحلة الشباب والكهولة لتصل إلى الشيخوخة، وتكون من الوهن بحيث لا يمكنها مقاومة جرثومة الفساد، فتموت سريريًّا، ثم طبيعيًّا، لتوضع في سجل الوفيات.

والفساد قد يضرب الدولة في مرحلة الفتوة والشباب، لكنها تكون قوية بما يكفي، فيتم الأخذ على يد الفاسدين، ومحاسبتهم، ومعاقبتهم، وإقصاؤهم، فلا تنال جرثومة الفساد منها، فإذا تمكن الفاسدون من مفاصلها في مرحلة الشباب والفتوة، فيكون انهيارها مبكرًا، تمامًا كما حدث مع الدوليات التي انشقت عن الدولة العباسية، كالدولة الإخشيدية، والكافورية، والأيوبية، والحفصية، ودولة المرابطين، وغيرها، وكما حدث مع حكم البايات لكل من ليبيا والجزائر وتونس، في الفترة من (1603م – 1711م)، أو الدولة القرمانلية التي انشقت عن الدولة العثمانية وحكمت ليبيا في الفترة من (1711م – 1835م).

في يومنا هذا ليبيا وضعت في المرتبة السادسة عشرة على مؤشر الفساد العالمي، وذلك في العام 2023م، والفساد عم هذا البلد الصغير وطم حتى ضربت أمواجه قطاعات الخدمات والإنتاج على حد سواء، فالغش في الامتحانات بات ظاهرة يصرح بها المسؤولون في قطاع التعليم، والخطورة لا تكمن في وجود الغش فحسب، بل في تشجيع أولياء الأمور عليه، ومحاربة كل من يقف ضد هذه الظاهرة، والاحتفاء بالنتائج المترتبة عليها، ولا يقف الفساد عند الغش، بل يتعداه إلى الوساطة في القبول في الكليات الجامعية، فالمعدل لا يقف حائلاً أمام القبول في كليات الطب مثلاً لمن لديهم واسطة تمكنهم من الالتحاق بها، ويذكرني هذا بقصة الشخص الذي توسط لطالب ليلتحق بكلية الطب، وتمكن الطالب من التخرج في إطار منظومة الفساد التي شعارها (دعه ينجح دعه يمر)! وحدث أن مرض هذا الذي توسط، وأجريت له عملية وقع فيها الطبيب في خطأ طبي ترتب عليه بتر لساق هذا الشخص، وكانت المفاجأة أن الطبيب هو ذاته الطالب الفاشل الذي توسط له ليُقبل في الكلية!

والفساد كما هو في قطاع التعليم موجود في قطاع الصحة، فالمخالفات المالية موجودة في المستشفيات، وتدني تقديم الخدمات الطبية في المستشفيات العامة لصالح المستشفيات الخاصة أمر موجود ومشهود، بل وبات عاديًّا وطبيعيًّا وليس محل استغراب، فكثيرًا ما تكون مقابلة الطبيب في المستشفى الخاص أيسر وأسهل بكثير من مقابلة ذات الطبيب في المستشفى الحكومي.

وقس على ذلك باقي القطاعات، فالسيولة المصرفية تحولت إلى مكاتب الصرافة فيما يسمى بالحرق، وهلم جرا من مظاهر الفساد في باقي القطاعات.

أخيرًا أقول إننا بحاجة ماسة إلى استراتيجية وطنية لمكافحة الفساد، لكن الأمر مرتبط بأمرين، الاستقرار والحوكمة الرشيدة، فبدون استقرار للدولة على الصعيد السياسي، وبدون تطبيق لقواعد الحوكمة في مؤسسات الدولة، وبدون تفعيل حقيقي لمنظومة الرقابة ومكافحة الفساد فلن نجد تغيرًا نحو الأفضل في الرجوع بالدولة ومؤسساتها إلى بر الأمان.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى