مقالات الرأي

رؤية سياسية وإجماع وطني

بقلم/ محمد عبد القادر

ليست معجزة أن ينصلح حال بلد، أيّ بلد في الدنيا، إذا استجمع أهله أمرهم وشحذوا همتهم وحكَّموا إرادتهم، وحزموا أمرهم وجمعوا كلمتهم ونظروا في شؤونهم بروح الانتماء، وحكَّموا مصلحة الوطن على مصالحهم، واستعانوا بعقولهم المدبرة وخبرائهم بدل الركون إلى الأجنبي وتسلميه أمورهم.

بناء على كل ما تقدم يستطيع الليبيون الخروج من المأزق التاريخي الذي أُدخِلوا فيه عمدًا باستغلال أخطاء متراكمة مسؤولة عنها كل الأطراف، كلٌّ حسب مسؤوليته. لكن من العيب الاستمرار في الخطأ وإعادة ارتكابه مرات متعددة لغياب المراجعة الذاتية وغياب الحوار الدائم بين الأطراف التي تتصدى للشأن العام والتي يجب أن تعمل معًا لمواجهة ما يعتري الوطن من مشاكل وقضايا إشكالية.

كنت أعتقد أن طوفان درنة الكارثي والطوفان البلسم الذي انساح في البلاد من كل الأطراف فرادى وزرافات لمواجهة آثار ذلك الطوفان المدمر بتخفيف الآثار على المنكوبين في الوطن المنكوب، وتقديم العون المطلوب أو الممكن في عملية إغاثة، قل نظيرها في العالم بعفويتها وصدقيتها وسرعة استجابتها ودفن كل الأحقاد التي استقصد الأجنبي زرعها بيننا لتحقيق مآربه ومصالحه بالاقتتال بيننا وتدمير النسيج الاجتماعي، أنها صحوة أفزعت الأجنبي وأربكته وجعلته يرمي بثقله وكل أوراقه لمنع أي عمل وطني يمكن أن يحدث فرقًا في جمع شتات الوطن، نعم كان يجب أن تُستغل من قبل من اعتقدنا أنهم سياسيون من جميع المشارب والأطراف والأيديولوجيات، لكنهم فشلوا جميعًا بلا استثناء في إدارة دفة الوطن أو الاتفاق على الحد الأدنى من التوافق لإنقاذ درنة والوطن.

نعم يبدو أنني كنت متفائلًا أكثر مما تحتمل ظروف أهل الوطن، فلمَّا لم يُحدث ذلك الطوفان لقاءً وطنيًا جامعًا احترامًا لكل تلك الضحايا التي ذهبت سُدىً، في لحظة تاريخية كان يمكن أن تصنع جدارًا يكون خط دفاع عن الوطن الجريح وأن تصنع توافقًا ممكنًا، فالحدث كبير والتحديات أكبر ونتائج الكارثة فوق التصور، لذلك تحتاج إلى حدث يوازيها، وهو اللقاء الوطني الجامع الذي ينبثق من هول الصدمة التي تجعلنا نستفيق.

لكنَّ توقعاتي لم تحدث، إما بسبب قراءتي التي يبدو أنها دبجت بالآمال أكثر من الحقائق، أو أن اللحظة التاريخية لم تحِن بعد.

كل ذلك يجب أن يجعلنا نقف جميعًا أمام مسؤولياتنا ولإعادة تشكيل رؤيتنا وانطلاق مراجعة الذات لجميع الأطراف وفتح حوار وطني جامع بلا مزايدات ولا عنتريات وبلا اجتماعات مريبة لمؤسسات دولية ظاهرها براءة أطفال وباطنها جحيم الشيطان والعمل على محاولة الجلوس حول مائدة مستديرة للحوار المفتوح والعقلاني والمنضبط بضوابط وطنية تحمي الوطن وتحفظ كيانه وترمم ما تصدع فيه، وتعبُر به إلى شاطئ الأمان وبر السلام وطمأنينة العيش وكرامة المواطن التي هي من كرامة الوطن وعنفوانه، وأن الأجنبي لا يريد لنا الخير، فهو يريد مصالحه الذاتية وهيمنته على أرضنا وثرواتنا وبعدنا الاستراتيجي، فهو يعمل على الثغرات التي وجُدت لتفريق وتمزيق الوطن وبعثرة قواه وقدراته وتحويل شعبه ليصبح مرتزقًا يحارب ضد مصلحة وطنه خدمة لهذا الأجنبي في صراع أهلي بكل الوسائل والوسائط.

كل شيء يمكن أن يناقش تحت سقف الوطن الجامع لنا جميعًا، ويمكن أن نوظف العرف والتقاليد الغنية التي عالج بها أهل الوطن كل الصراعات من الصراع العائلي إلى القلبي إلى الجهوي وعلى عموم الوطن بجلوس أهله مباشرة أمام بعضهم البعض والبحث عن التوافق في أصغر حجمه ثم الارتقاء به إلى تحقيق توافقًا أكبر يكون متفقًا مع ما يتطلبه الحال لمواجهة التحديات الكبرى التي تستهدف الوطن بأكمله وأهله.

كل هذا ممكن ومقدور عليه لكنَّ سماع الأجنبي والاستجابة لطروحاته وثقة بعض الأفراد والتجمعات فيه أو كونه ولي نعمة لهم كل ذلك يعرقل أيَّ إجماع مرتقب أو حتى مجرد اجتماع مؤثر، لأن في ترك الليبيين مجالًا لعلاج قضاياهم بأنفسهم ضياعًا لفرصة الهيمنة الكاملة على الوطن ومقدراته، وهو ما يجري الآن على قدم وساق بأدوات محلية مستعدة لبيع الوطن مقابل عمولة صغيرة حقيرة لأنهم سفهاء أحلام وضيقوا الرؤية ومنتهزو فرص.

الحقيقة التي نريد تأكيدها وتوكيدها هي أن التوافق الليبي ممكن وهناك أرضية له بعد أن فشلت فشلًا ذريعًا كل المحاولات الحالية لما سُمَّي المصالحة تحت إشراف الأمم المتحدة التي هي أداة الدول الكبرى لتحقيق مصالحها وفشلت كل المحاولات الإقليمية وحتى الأطراف المحلية كالبرلمان ومجلس الدولة والمجلس الرئاسي والحكومتين والمجالس القبلية والأحزاب وغيرها التي عملت تحت سلطة القناصل.

العلاج يكمن في التواصل المباشر بين كل أهل الوطن في لقاءات شعبية متواصلة بين المدن والقبائل والمناطق والمجالس والأحزاب وأهل الخبرة والاختصاص والمثقفين المتفرجين في عمومهم، ولا نقصد الارتزاقيين! استمرار التواصل والبحث عن إنتاج قناة وطنية شعبية خارج كل هذه الأجسام التي فقدت القدرة على التواصل مع محيطها بثقة أو التواصل مع بعضها بثقة أيضًا هي مستمرة لتحقيق منافع قياداتها ومستمرة دوليًا وإقليميًّا لتحقيق مصالح الإقليم والدول التي تسعى وقد حققت هيمنتها في استمرارها.. وإن غدًا لناظره قريب.

زر الذهاب إلى الأعلى