حاجة العالم إلى الاقتصاد الإنساني
بقلم/ فوزي عمار
الاقتصاد ليس أرقامًا فقط، بل يتداخل مع الجانب الإنساني والاجتماعي، لأن له علاقة مباشرة في توفير الحاجات الأساسية مثل السكن والمركوب والدواء والغذاء، كما أنه يشتري السلم الاجتماعي للمجتمع والدولة معًا.
سابقا كانت هنالك ثلاث مدارس كبرى في الاقتصاد: الاشتراكية، الرأسمالية، الاقتصاد المختلط.
الاشتراكية التي سقطت في الاتحاد السوفيتي وأعيد إحياؤها في الصين من خلال فصل الملكية عن الإدارة، وأصبحت تحقق نموًّا اقتصاديًّا بمعدل يصل إلى 10 %.
أما الرأسمالية فأصبحت تجاهد بعد ظهور الاحتجاج خاصة في فرنسا وتشكيل تكتل اقتصادي يسعى إلى الخروج من هيمنة الدولار وهو تكتل بريكس.
الاقتصاد المختلط أقرب إلى الاقتصاد الإنساني، ونشأ في شمال أوروبا ودول الشمال من خلال نموذج الرفاه الشمالي Norden Model of Wellfair الذي يحصد التراتيب الأولى في مؤشرات التنمية الاقتصادية في العالم ولسنوات طويلة.
أنسنة الاقتصاد مفهوم جديد بدأ يظهر ويهتم به معظم المهمومين بالعدالة الاجتماعية التي تهتم بالبعد الإنساني والاجتماعي بين طبقات المجتمع، والتي أشرت في مقال سابق إلى أنه حصلت لها إعادة تموضع جديد في عصر المعلوماتية وانتشار المعرفة على نطاق واسع والتداخل الطبقي الذي أصبح معه التقسيم الأفقي القديم (عمال ـ برجوازـ نبلاء) غير ممكن اليوم.
كما أن الدخول في حقبة يمكن أن نسميها (عصر المخاطر) بعد جائحة كورونا وحرب روسيا / أوكرانيا، جعل كثير دول المعسكر الرأسمالي تتجه إلى دعم اقتصادها رغم الخلاف المنهجي للاقتصاد الرأسمالي الذي يقوم عليه الاقتصاد الحر ولا تتدخل فيه الحكومة ولا تدعمه.
ظهور المفهوم الجديد في الاقتصاد الذي بدأ في 2015 وهو الاقتصاد الدائري circle economy الصديق للبيئة، ويتم تدوير المخلفات فيه فلا نفقد الموارد المتناقصة في العالم، بل يتم إعادة تدويرها بالكامل عن طريق تصميم دائري مسبق يسمى Cradle to cradle design وهو مفهوم ما بعد التدوير Recyling لأنه يقوم على التصميم المسبق إلى التحول من منتج إلى آخر.. مثلا قد تبدأ بالملابس إلى الأثاث إلى الورق… وهكذا، وحسب نوع كل مادة وإمكانية تحويلها مستقبلًا، فلا تفقد المادة قيمتها، بل تنبعث من جديد في شكل منتج جديد.
مفهوم جديد خرج من دول الشمال صاحبة فكرة الاقتصاد المختلط الناجح.. اقتصاد أكثر أنسنة، لا يسعى إلى الهيمنة ولا إلى التغول مثل اقتصاد السوق الحر والليبرالية المتوحشة التي لا تعترف إلا بالربح ولا تهتم بالاجتماعيات، بل بالماديات فقط. اقتصاد لا تهيمن عليه الدولة ولا تمنع الفرد من حقه في ممارسة عمل والإبداع فيه.
الاقتصاد المختلط يقوم على ملكية الدولة للموارد وشراء الخدمة من القطاع الخاص، كما أن ظهور الاقتصاد التشاركي قاد إلى تغير كبير في اتجاه الاقتصاد الإنساني، أيضًا الاقتصاد الاجتماعي التضامني الذي ظهر في فرنسا قاد إلى إدماج الاجتماع والثقافة مع الاقتصاد.
فرنسا التي عاد فيها اليسار للمشهد السياسي بعد تراجع اليمين المتطرف في الانتخابات التي تجرى في فرنسا هذه الأيام وهو ما يراه البعض أن الديمقراطية تعدل نفسها بنفسها خاصة بعد حملة السترات الصفراء التي أذنت بتراجع اقتصاد السوق الحر في عقر داره.. لقد طالب موظفو الخطوط الفرنسية وحصلت على مبيت في رحلات حتى القصيرة مثلا إلى تونس مؤخرا.
وحصل عمال دول الخليج العربي على التوقف عن العمل أثناء فترة الظهيرة التي تصل فيها درجات الحرارة أكثر من 45 درجة مئوية مما يؤدي إلى الإجهاد الحراري.
أيضًا نجاح حزب العمال في تشكيل حكومة هذا الأسبوع في بريطانيا بعد فرار عشرات الآلاف من الأثرياء من بريطانيا إلى دبي وفشل السياسات الاقتصادية لحزب المحافظين خاصة في تعاملها مع المهاجرين الذين أرادت إعادتهم إلى روندا في ظاهرة تسقط مفهوم الليبرالية وحرية الإنسان في اختيار مكان عيشه، لقد سقط الليبراليون في الغرب مع أول امتحان مس جيوبهم.
اقتصاد السوق الاجتماعي ظهر وترعرع في ألمانيا أكبر اقتصاديات أوروبا والعالم.
كل هذه مؤشرات عن بداية التفكير في اقتصاد بديل للرأسمالية المتوحشة التي أفسدت الكوكب خاصة في نشر التلوث البيئي الذي أصبح العالم يحاول أن يجد حلًّا له بعد ظاهرة الارتفاع والاحتباس الحراري.
ما زال الطريق طويلًا أمام الاقتصاد الإنساني ليتبلور كمفهوم كوني.. ولكنه أصبح ضرورة في ظل ما يشوب العالم اليوم من حالات عنف أحد أسبابها الغبن وعدم عدالة التوزيع محليًّا بين طبقات المجتمع الجديدة خاصة المتعلمة، وعالميًّا بين دول الشمال الغني ودول الجنوب الفقيرة.
كل ذلك جرى خاصة بعد تحول العالم من العولمة إلى المناطقية (Globalisation to Regionalisation) وهذا موضوع آخر في مقال آخر.
ولكن دائما الأمل هو المحرك للتاريخ.