التمسوا الدولة بعيدًا عن القبيلة
بقلم/ فرج بوخروبه
عنوان جانبي / عندما تنسلخ القبيلة عن إطارها الاجتماعي وتتحول إلى كيان سياسي يصعب على الدولة السيطرة على مقاليد الحكم وسن القوانين الدستورية إلا بمباركة وموافقة القبيلة التي أصبحت هي السلطة التشريعية والتنفيذية للدولة، ولن تكون لتلك القوانين قوة إلزام ما لم تصادق عليها القبيلة تحت مظلتها، مهما بلغت قوة الدولة في مواجهة القبيلة المتمركزة خلف شرعية الدوائر الانتخابية بمجلسي النواب والشيوخ المبنية أساسًا على تقسيم الدوائر بما يتوافق مع أهواء وانسجام المجتمع القبلي!!
لا تجرُّوا القبيلة في حساباتكم السياسية.. فهي كيان اجتماعي تحكمه أعراف وعادات وتقاليد محافظة، نسيج متماسك مترابط يراعي أواصر الأخوة وحسن الجوار، قوتها في الإذعان الطوعي وحراكها الخيري المستمد من آيات القرآن والأحاديث النبوية الحاثة على العفو والصفح وروح التسامح، وبراعتهم تكمن في الحجة والبرهان، مجترين تجارب سابقة للاستدلال بها كأسلوب إقناع دامغ، مُحذرين من عواقب وويلات التهور ومحاولة الحد منها، بحسن القول، فترى الأمثلة وأبيات الشعر الدالة على فعل الخير والوقاية من الشر حاضرة في سردهم، فكانوا فرسانًا للكلمة بما للمفردة من معنى، اتسموا بالشهامة والشجاعة والنخوة والكرم، كمنظومة كاملة من الأخلاق والقيم والمبادئ، نعم لكل قاعدة شواذ، ولكن طابع الخير هو الأعم والأشمل، عقابهم معنوي أكثر منه مادي كالتجريم مثلًا، وهو أكثر وقعًا على المجرم دون سواه.
خرج الأوروبيون من حقبة العصور المظلمة بعد الثورة الصناعية، من ثم ثورة التكنولوجيا، لندخل نحن المسلمين بدلًا عنهم متراجعين عن عصر النور إلى عصر الجاهلية الأولى! ويرجع ذلك لهيمنة رجل الدين، والعيش في بوتقة التراث الإسلامي المنقول، والعودة إلى عصر ما قبل الإسلام حيث العادات والتقاليد المتوارثة، والتفاخر والغزوات والحروب الأهلية الدائرة بينهم على الماء والكلأ، ويا لثارات كليب! حرب البسوس وداحس والغبراء وعروة بن الورد وعنترة بن شداد! وسالم لا تصالح، تأثرًا بدور القبائل في المجتمعات العربية القديمة التي كانت سائدة منذ قرون في منعة القبيلة وهيمنتها!!
عندما تنسلخ القبيلة عن إطارها الاجتماعي وتتحول إلى كيان سياسي يصعب على الدولة السيطرة على مقاليد الحكم وسن القوانين الدستورية إلا بمباركة وموافقة القبيلة التي أصبحت هي السلطة التشريعية والتنفيذية للدولة، ولن تكون لتلك القوانين قوة إلزام ما لم تصادق عليها القبيلة تحت مظلتها، مهما بلغت قوة الدولة في مواجهة القبيلة المتمركزة خلف شرعية الدوائر الانتخابية بمجلسي النواب والشيوخ المبنية أساسًا على تقسيم الدوائر بما يتوافق مع أهواء وانسجام المجتمع القبلي!!
ومن منطلق مقولة يد الله مع الجماعة، ترسخت عند القبيلة الدعوة إلى حث أفراد القبيلة على التماسك ووحدة الصف انسجامًا مع هذه المقولة بشيء من التعديل (يد الله مع القبيلة، كن مع القطيع تنجُ) حفاظًا على الكيان الاجتماعي المترابط كلما كان لهذا الوطن مكانة خاصة في نفوس أبناء القبيلة التي كانت تعيش تحت وطأة الاحتلال في السنوات السابقة! نعم كانت القبيلة حاضرة إبان الذود عن الوطن والتصدي للاستعمار البغيض في شكل أدوار عسكرية تحت مسمى المقاومة الشعبية، عرفت بدور قبيلة كذا ودور قبيلة كذا، وفق جغرافية ليبيا وسكانها ذات النفوذ المناطقية، تحت قيادة شيخ القبيلة حينها.. والآن كيف ينظر أبناء الجيل، جيل ما بعد الاستعمار والحروب الأهلية، إلى مفهوم الدولة، وكيف لهم تمجيد القبيلة؟ أبناء جيل ما بعد الاستقلال لعلهم يعودون إلى الوطن من زاوية كيف كنا وكيف أصبحنا!! وقد يختلفون في ذلك.
الأولى: هو تقييمهم للدولة على أنها مشروع غير ناجح، إذا ما عادت بهم الذاكرة إلى حقبة زمنية عانى منها الآباء والأجداد شظف العيش، على أنها مجرد أحداث عفى عليها الزمن، وليس عليهم دفع ثمنها اليوم.
ويرى آخرون: أنهم يقرؤون، نعم شباب اليوم يقرأ ويخوض ثورة ثقافية، وكلما قرأوا أكثر سقطت بعض المقدسات إلى الحضيض، وشكلت تهديدًا واضحًا على معوقات النمو الحضاري، كالقبلية السياسية، واستغلال الخطاب الديني لتنويم الشعب مغناطيسيًّا بجرعات عاطفية.. وهنا علينا أن نفرق بين القبيلة والدولة، وبين القبلية والقبيلة.
أناشدكم أيها الساسة يا من تؤمنون بفن الممكن، تمكنوا كما تشاؤون من غريمكم، فنًّا وقولًا وتعاملًا، واتركوا كباركم وكيانكم الاجتماعي بعيدًا عن غاياتكم وأهدافكم السياسية، كمتسابقين متنافسين على الاستحواذ بالسلطة والمال والجاه.. لا تستخدموا القبيلة لنواياكم وطموحاتكم، فلكم دينكم ولهم دين!!