مواسم نحر الصحافة
بقلم/ عفاف الفرجاني
كعادتي أضع أولويات كتابة العمود الأسبوعي من خلال أحداث ومجريات محلية ودولية، وفي كل مرة هناك أكثر من وجع يجبرك على استحضار إنسانيتك قبل مهنتك في الكتابة، هذه المرة الحدث أخذني إلى تلك المكالمة الهاتفية التي جمعتني بصديقي الصحفي، كثير التفاؤل، رشيق القلم، فهو اليوم يشغل منصبًا مهمًّا في الصحافة، أراد دعوتي من باب المحبة والاحترام والعشرة الطيبة التي جمعتنا أن أعود إلى العاصمة طرابلس لممارسة عملي الصحفي كسابق عهدي منذ أكثر من عقد من الزمن، ويخبرني أن الهيئة اليوم تعيش انتعاشًا فكريًّا وديمقراطية رأي، وحرية تعبير… الخ.
هذا الصديق تتلمذت على يده، وهو يعرف أنني لا أهادن ولا أستكين ولا أساوم على مبادئي، ويعرف أن هذه البيئة طاردة لمواقفي ولجرأتي، إلا أني لم أرغب أن أكسر مجاديف حماسه وهو الذي استبعد عن مهنته سنوات، حيث استوطن الرويبضة صحافتنا وحتى ذكرياتنا.. جاريته في تفاؤله ولم أعط له وعدًا، بل دعوت الله أن يوفقه في عمله الانتحاري، معلمي غابت عنه إحداثيات اللعبة، ففي عالمنا الكبير الوسيلة الإعلامية لا تنشق عن ممولها، وليبيا ضمن العالم، إلا أنني أختلف معهم في نقطة وجوهريّة حيث لا نستطيع أن نتهم أجهزة الأمن بالعجز والتقصير أو حتى التواطؤ عند اعتقال صحفي أو تصفية إعلامي أو اختفاء مدون كباقي الدول، لأنه بكل بساطة أجهزة الدولة وأدواتها وراء هذه الأعمال المخزية.
المستغرب والمستهجن هذا الصمت المطبق الذي يعيشه الصحافيون والإعلاميون والكتاب والمدونون والمثقفون إزاء هذه الأعمال العدائية، أيضًا سطحية النقابة التي لا نسمع منها سوى التراشق والمهاترات على صفحات الفيسبوك مع خصومها، وتكرس وقتها في صراعات مناصبية في الوقت الذي يصادر فيه الرأي وتحجر فيه الكلمة ويخطف ويعتقل وحتى يقتل فيه الصحفي.
جريمة أخرى اليوم تضاف إلى الحكومة المغتصبة للسلطة والفكر، حيث تم القبض على رئيس تحرير صحيفة اقتصادية تهمته الأولى والأخيرة أنه صحفي استقصائي واجه الحكومة بملفات فساد طالت وزارات ومؤسسات سيادية أولها وزارة الاقتصاد، وهي ليست المرة الأولى التي يعتقل فيه صحفي، بل وصل الأمر إلى التصفية، وهذا ما حدث مع المدون الصحفي “جاب الطيب الشريري” الذي تمت تصفيته أمام أهل بيته لأنه انتقد حكومة الدبيبة، ولم تعاقب الجهة المسلحة التي قامت باغتياله باعتبارها جهة تنفيذية للحكومة، غير الذين تمت تصفيتهم أثناء الاشتباكات بشكل متعمد.
اليوم المؤسسات الصحافية والثقافية والإعلامية بشكل عام تعيش حالة فوبيا من الأجنحة العسكرية التابعة لحكومة الدبيبة الانفصالية، فهي لا تستطيع أن تتطرق بشكل حقيقي إلى هذه الأعمال أو يمكنها ورفع دعاوى قضائية، هي تأمل فقط تركها ككيانات قائمة حتى لو اقتصر عملها على التمجيد والتطبيل والإحساس بالوهم أنهم أصحاب الجلالة.
نحن اليوم أمام شيطنة حكومات ميكافيلية استولت على ليبيا رصدت لها أعمال إجرامية ما بين 2011 ـ 2022 قتل قرابة الـ30 صحفيًّا ومدونًا، هذا ما وثقته المنظمة الليبية للإعلام المستقل، جلهم أثناء تغطيتهم حروب الميليشيات التابعة، أو في تغطية الاحتجاجات، وأكثرهم بسبب كتاباتهم الصحفية وتدويناتهم التي تفضح وتكشف فساد الحكومة والميليشيات، هذا غير المعتقلين والمفقودين، فالحكاية بدأت مع مفتاح بوزيد، ولن تقف عند أحمد السنوسي حتى يدبر رأس الأفعى وتنتهي أضحوكة “الثورة” الفوضى الهدامة.