موازنة موحدة ضخمة هل تساعد على توحيد مؤسسات الدولة أم تشكل بذرة للتقسيم؟
متابعات – الموقف الليبي :
اعتمد مجلس النواب خلال الأيام الماضية الميزانية العمومية للعام 2024 بمبلغ 179 مليار دينار، بزيادة تجاوزت 200 % عن آخر ميزانية تم اعتمادها من قبل مجلس النواب، وبعد مرور ما يزيد على سبعة أشهر من الفترة التي تغطيها الميزانية المعتمدة.
وقد تم اعتماد الميزانية العمومية بعد جلسات مكوكية تولتها رئاسة مجلس النواب بالتنسيق مع محافظ مصرف ليبيا المركزي، سعت من خلالها إلى إعداد وإقرار ميزانية موحدة تصرف بالتوافق بين الحكومة الليبية المعتمدة من مجلس النواب وحكومة الوحدة الوطنية بطرابلس، إلا أن هذه التحركات يُحسب عليها أنها تمت تحت رعاية أجنبية ودول تتحكم في توجيه القرار الليبي، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا.
المتابع للشأن الليبي وتحركات مجلس النواب والإجراءات المتبعة في إعداد واعتماد الميزانية يلاحظ الجزافية في تقدير حجم الإنفاق وتوزيعه على بنود الميزانية وغياب الأسس الاقتصادية التي تُبنى عليها الميزانية العامة، مما يثير جملة من التساؤلات من أهمها:
من أين سيتم تدبير الموارد لتمويل هذا الإنفاق؟
كيف سيتم صرف ميزانية بهذا الحجم بعد مرور 70 % من المدة المخصصة لها؟
هل تم اعتبار رسم المعاملات الدولارية من ضمن موارد الميزانية العامة؟
ما التدابير لمعالجة أي عجوزات متوقعة، أم أنها تمهيد للطريق للخضوع لإملاءات صندوق النقد الدولي؟
ما الترتيبات لإقفال ميزانية تشرف على تنفيذها حكومتان؟
ويتتبع المواطنون بشغف، مصير 179 مليار دينار (نحو 36 مليار دولار) هي قيمة أضخم ميزانية في تاريخ ليبيا، وسط آمال في أن تنعكس هذه الحزمة على حياتهم لتحولها إلى الأفضل، بدلا من أن تصبح فصلا جديدا في حقبة “الفرص الضائعة” التي تعيشها.
ومع ذلك، يبدو التشاؤم مقدما على ما عداه في هذا الملف، في ظل الظروف والملابسات المرتبكة التي تم اعتماد تلك الموازنة فيها، إذ تم إقرارها على مرتين، ووسط انقسام سياسي شديد التشعب.
وفي هذا السياق تابعت صحيفة “الموقف الليبي” ردود أفعال عدد من الخبراء المختصين في الشأن الاقتصادي والمالي حول هذا الموضوع.
حيث يقول الدكتور عطية المهدي الفيتوري، خبير اقتصادي وأستاذ الاقتصاد بالجامعات الليبية، إنه لأول مرة يرى أن السلطة النقدية تشجع السلطة المالية على زيادة الإنفاق العام، فالعادة وما هو متبع في علم الاقتصاد والذي تطبقه البلدان المتقدمة عدم زيادة الإنفاق العام إلا في حالات معينة مثل الركود المصاحب للبطالة، حيث إن زيادة الإنفاق العام لا تؤدي إلى زيادة معدلات التضخم.
وأضاف الفيتوري عبر صفحته الرسمية على فيسبوك: لكن في ليبيا العجيب أن مباركة السلطة النقدية لزيادة الإنفاق العام لن تؤدي إلى امتصاص البطالة أو تحريك الاقتصاد من وضع الركود الاقتصادي، بل إنها ستؤدي إلى زيادة معدل التضخم، ومطالبة العاملين بزيادة مرتباتهم، وتدني مستوى الدخل الحقيقي وزيادة حجم شريحة المجتمع التي تعيش تحت خط الفقر.
وأشار الفيتوري إلى أن الاقتصاد الليبي على أمواج متلاطمة ولا نعلم أين ستقذفه هذه الأمواج، على حسب تعبيره.
ويصف الدكتور علي الصغير، الخبير المالي، إقرار الميزانية بهذا الشكل بأنها “العبثية بعينها”، مضيفا أن هذه الميزانية لا تمت بأي صلة للقواعد والأسس التي يجب مراعاتها في إعدادها ولا في تصويرها ولا حتى تبيان بنودها، ناهيك عن توقيت اعتمادها، حيث السنة المالية المقصودة قد مر أكثر من نصفها، والمعروف أن أعداد الميزانية يتم قبل بداية السنة المالية وقد تتأخر شهرا يتم الإنفاق فيه بنسبة 1/12 من السنة التي قبلها.
ويشير الصغير إلى ضرورة مشاركة جميع القطاعات المناط بها الإنفاق في إعداد الميزانية، مضيفا: أجزم أنه لم يحدث.
وأضاف: أن ميزانية اعتمدت بــ 179 مليارا في حين أن الإنفاق الفعلي للنصف الأول من العام المالي قد مضى ولم يتجاوز 55 مليارا، فكيف يمكن إنفاق 125 مليارا خلال الفترة البسيطة المتبقية، في حين أن الإنفاق الفعلي للسنة الماضية لم يتجاوز 122 مليارا بنسبة زيادة تقارب الـ 60%، متسائلا: ما مبرراتها؟
ويشير المهندس محمد بن نيران، خبير اقتصادي، إلى عدم وجود مصدر لتغطية الـ 179 مليارا إلا برفع سعر الصرف، الذي ببساطة هو تخفيض قيمة الدينار، وبتبسيط أكثر، الشعب الذي يفترض أن يكون هو مصدر السلطات، صار مصدر تغطية النفقات.
وأضاف بن نيران: “بدلا من أن يعتمد الشعب على الحكومة في تحسين الدخل العام، أصبحت الحكومات هي من تستغل الشعب في إطفاء الدين العام”، متابعا: إلى حين عودة الوعي “يمكن الاستمتاع بقراءة الأكاذيب والتقارير المضللة، المتناقضة والمتضاربة عن الشفافية والإنفاق والواردات والصادرات”.
ويرى عضو مجلس النواب سالم قنيدي، أن اعتماد الميزانية يحتاج إلى 120 صوتا، وأغلب الأعضاء قاطعوا الجلسة ولم يحضروها، وأن ما يحدث يعد فسادا وتلاعبا بالليبيين.
وأضاف قنيدي أن محافظ مصرف ليبيا المركزي يناقض نفسه، فقدرته على صرف ميزانية بقيمة 179 مليار دينار تثير التساؤلات عن أسباب فرضه ضريبة النقد الأجنبي، مشيرا إلى أن الكبير يريد الذهاب بليبيا نحو تنفيذ شروط صندوق النقد الدولي، على حسب قوله.
ويقول الخبير الاقتصادي مختار الجديد إن تقاسم الميزانية بين الحكومتين في الشرق والغرب ترسيخ لواقع جديد يعزز الانقسام، مضيفا: لو أدرك الليبيون خطورة هذا الأمر على وحدة ليبيا لخرجوا بالآلاف إلى الشوارع.
فيما يرى الأستاذ عبد الله الربيعي أن ميزانية بقيمة 179 مليار دينار للعام 2024 هو رقم فلكي، لكن بسعر الـ 7 دينارات للدولار حسب السوق السوداء، هذه القيمة لا تتجاوز الـ 25 مليار دولار، مضيفا أن المشكلة ليست في الرقم، المشكلة في أوجه الصرف والفساد في الإنفاق والسرقة التي تصاحب تنفيذ هذه الميزانية.
ونوه الربيعي بالفساد الذي يصاحب الإنفاق وأوجه الصرف، مضيفا أن هناك مصروفات تذهب إلى دواوين الحكم والمجلس الرئاسي ومجلس الوزراء ومجلس الدولة ومجلس النواب والبلديات الفاسدة والوزارات التي تنهب في كل شيء ولا شيء على أرض الواقع، مطالبا بمنح صندوق الإعمار والتنمية بنغازي ميزانية التنمية، باعتباره يعمل على الأرض وأصبح واقعا ظاهرا للعيان وفضح أجهزة الدبيبة وحكومته.
وعلق الدكتور أحمد كجمان، على إقرار مشروع قانون الميزانية، قائلا: “أغرب وأسرع اتفاق”، متابعا أن ميزانية الـ 179 مليارا هي بوابة دخول لصندوق النقد الدولي وفرض قيود اقتصادية على ليبيا ستكون نتائجها ارتفاع الديون والفوائد وزيادة في البطالة.
وأشار كجمان إلى أن صندوق النقد الدولي نظريا هيئة أممية، فعليا مؤسسة مالية تديرها الدول العظمى بغرض فرض الهيمنة والتبعية الاقتصادية.
ويقول الدكتور عمران مفتاح السنوسي، معلقاً على قانون الميزانية العامة للدولة إن إهدار الأموال وصرف الميزانيات والصراعات والخلافات والانقسامات لن تبني وطنا، مشيراً إلى أن الوطن يبنى بالعزيمة والإرادة والكفاح، وقد وصلنا إلى مرحلة من الكفاح تستدعي الوصول إلى توافقات سياسية بين جميع الأطراف للخروج بالبلد من هذا المأزق الخطير.
وواصل السنوسي: نحن انتقدنا الميزانية لأنها ضخمة رقميا ولأن ما سبقها من تصريحات كان يشير إلى عجز في الموارد المالية مما يستوجب التقشف وليس البذخ حسب فهمنا البسيط، ننتقد الميزانية لأنها كانت مقسمة بين طرابلس وبنغازي بالمسمى مما جعلنا نشعر بالتهميش في باقي المدن، ولأنها وزعت على حكومتين ونحن نتطلع إلى توحيد البلد في حكومة واحدة.
وتابع: نحن ننتقد الميزانية خوفاً وحرصاً فقط لا غير، أليس من الأجدر أن تكون هذه الميزانية تسييرية فقط إلى أن نعيد النظر في أمر مواردنا وكيفية سد العجز في مصروفاتنا وإعادة تقييم اقتصادنا ووضع استراتيجياتنا بناءً على الأولويات ووفق المتاح وليس وفق الرغبات.
ويرى الأستاذ امحمد الغول أن الميزانية نزيف مالي مفزع، عندما تكون الدولة رخوة وهلامية سيكون هناك غياب تخطيطي جوهري واستراتيجي، ومنطق الأولويات، في ظل تشوهات وظيفية ونزيف مالي واقتصادي كبير ومفزع، حتما سيقود الوطن إلى الإفلاس.
وأضاف: لا مفر من إعادة بناء الدولة الوطنية العميقة، ولا بد من إضفاء الأخلاقية على الدولة، للحفاظ على المال العام، ولقمع الفساد والمفسدين، وتغليب المصلحة العامة على الخاصة، والتخلص من الأنانية المفرطة، ولابد من ابتكار نظام اقتصادي ليبي غير ريعي يعتمد على الإنتاج الزراعي والثروة البحرية والسياحة وتجارة العبور، بالإضافة إلى تقليص الجهاز الإداري، وتحقيق الرفاهية، لأن الادخار وتكديس الثروات نتائجه وخيمة على الشعوب الصغيرة، ولا بد من استبداله بالمشاريع التنموية والاستثمارية ذات العائد الدوري والبديل للنفط.
وقال الغول إن الاقتصاد وإدارة المال العام وإقرار الميزانيات بحاجة إلى خبرة عميقة متراكمة، وسياسات بناءة رشيدة، وبناء قلاع خدمية وصناعية وزراعية واستثمارية وشركات عابرة للحدود والقارات.
ويقول الأستاذ جبران سالم منصور مساعد أمين جهاز الرقابة سابقا: لم نستطع فهم كيف نفكك التناقض الذي يعترينا ونحن نشاهد ونسمع عن مصروفات تتجاوز الإيرادات فتخلق الدين العام بما اقتضى فرض رسوم إضافية على سعر الصرف بإثقال كاهل المواطن بمساعدة الحكومة بدلا من أن تكون الحكومة هي المبادرة بالنهوض بالمواطن وتصرف عليه يصرف هو من مدخراته عليها.
وتابع: في نفس الوقت نسمع ونشاهد حديثا عن مشروع قانون ميزانية برقم غير مسبوق وغير متناسب بأرقام لميزانيات دول مجاورة وأكثر بأضعاف مضاعفة سكانا، متسائلا لماذا تبخسون قيمة الدينار على سواد عيون الدولار وعلى حساب مستقبلكم، هذه جريمة لا تغتفر ألحقت الضرر بالجميع، على حسب قوله.