مقالات الرأي

عُقدة الدائرة في التاريخ العربي والإسلامي 

بقلم ناصر فرج رحيل

يعاني الإنسان في العالم العربي والإسلامي المعاصر، أزمة هوية زاد منها الانقسام السياسي والمجتمعي بأثر رجعي، غذته كيانات اجتماعية متعددة متعارضة تبدأ بالقبيلة والعرق، وتنتهي بالدين والمذهب والقومية.

في هجمة صارخة يتعرض لها استدعاء التاريخ العربي والإسلامي بكل فروعه، مما أثر على فهم ماضي الأمة، وانحراف حاضرها ومستقبلها، إنها حقيقة ربطت مستقبل ومصير دول وشعوب وأعراق وإثنيات بما حوته صفحاته من اختلافات حول تفسيرات بعينها. 

إنها عقدة السير في دائرة التاريخ العربي والإسلامي، وكما نعلم فإن الدائرة تعود بك إلى نفس النقط، وكذلك قضايا التاريخ العربي والإسلامي فهي لا تعود إلا إلى ذات القضية والإشكالية، ولكن في زمن مختلف بذات الأضرار والفتن والتقاتل، حتى أصبح تاريخ الأمة مليئًا بالقضايا والإشكاليات المكررة بذات التأثير السلبي، وبذلك أصبح التاريخ الجمعي للأمة العربية والإسلامية في كثير من جوانبه عامل تخلف وفرقة، وليس حافزًا للبناء والمضي نحو المستقبل، لأن نهضة الشعوب وتطور حضارتهم مبنية على عامل التراكم المعرفي والوجداني، حتى تسير في خط مستقيم يفضي إلى سيرورة التقدم إلى الأمام، دون السير في دوائر من تكرار للقضايا والإشكاليات والبناء السلبي عليها، بدل الخروج منها إلى عوالم جديدة، فذات المشاغل والمسائل التي كانت تشغل بال العلماء والفقهاء ما زالت مطروحة إلى اليوم في التراث والتاريخ الإسلامي، والكل يدعي الصواب والنجاة له ولفرقته، والويل والثبور لمن خالفه أو خالف مذهبه وطائفته، مما يسهم في تقسيم الدولة الواحدة، بل والأمة بأسرها، وحشر مستقبل العالم العربي والإسلامي في قاعة الانتظار، سنوات وسنوات بينما يقلع مستقبل وطموح الدول المتقدمة بشكل دوري، لا تعيقه دوائر التاريخ.

إن ذات الشواغل للنخب والمفكرين الإصلاحيين على امتداد الساحة العربية والإسلامية منذ العالم ابن خلدون وصولًا حتى القرن الثامن والتاسع عشر ما زالت هي ذات الأطروحات والقضايا وذات الهموم المجتمعية المهيجة للمشاعر والجالبة للفرقة والانقسام، فما كان يعالجه رواد النهضة في العالم العربي والإسلامي أمثال الشيخ محمد عبده ورفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني، وعبدالرحمن الكواكبي، والبستاني، ومحمد رشيد رضا أو خير الدين التونسي، وعبدالعزيز الثعالبي وغيرهم، من قضايا الإصلاح السياسي في منظومة الحكم، أو القضايا الاجتماعية، والفكرية ومحاربة الجهل والتشدد الديني أو تسييسه بما يخدم أهواء القوى المسيطرة، حتى لو كانت القوى الأجنبية، أو محاربة انتشار البدع والتخلف أو ما يخص قضايا المرأة، ما زالت هي ذات الشواغل والهموم والمحددات في تقسيم الفرق والمجموعات، وتحديد الإيديولوجيات وتبني عليها أحزاب وتيارات ونظريات للحكم تقسم الشعب الواحد، ما زالت هذه القضايا تمثل قمة الهرم، وباعث قلق للعلماء ومؤسسات دينية مشهورة في المشرق والمغرب، مضى على وجودها قرون وهي تلوك ذات المسائل التراثية أو الدينية، وتقيم لها الندوات والمؤتمرات، وتنبري لها الحناجر وتصرف عليها الأموال في رجعية تاريخه مضرة واغتيال واضح لمستقبل الأجيال الصاعدة. 

وبذلك أصبح طرح التاريخ والتراث بصورة مكررة بشكل دائري، واجترار القضايا ثم إعادتها ثم طرحها وهكذا أكبر مهدد ومعيق لبناء المستقبل، الذي كلما حزم حقائبه للانطلاق، لا يلبث حتى يعود إلى نفس النقطة التي انطلق منها، وبالتالي يفقد زخم التراكم إلى مزيد من المراوحة والتنابذ والفرقة. إن مثل تلك المراحل على سبيل المثال في تاريخ الشعوب الأوروبية، قد تم التخلص منها منذ قرون وحل محلها الثورة الصناعية بعلومها وتطورها، وطموحات الزعامة العالمية والسيطرة، ووحدة أممهم والاستفادة الحقيقية من جهود نخبهم ومفكريهم وقادة الرأي، تنطلق إلى آفاق أوسع لا تعيقه دوائر التاريخ وانتفاخ الوجدان بحضارة غابرة وقضايا وإشكاليات مذهبية وطائفية أو عرقية، ومناقشات فكرية عقيمة في التاريخ أو التراث، وبالرغم من أهمية التاريخ العربي والإسلامي بكل مراحله، في صناعة الوجدان العربي، فإن تقديمه بهذا الشكل في كل مستويات الحياة العربية والإسلامية وجعل إشكاليته هي المقياس، يكبح جماح حركة التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ويعطل قطار الحداثة بكل معانيها. إن عرض التاريخ وأسس الهوية العربية والإسلامية، في شكل دوائر مفرغة حول ذات القضايا المستفحلة منذ قرون وتصنيف الأفراد والمجتمعات على أساس كانتونات، وهذا التقديم للتاريخ وبكل ما ينطوي عليه من قيم عقلية ومعايير للوجود والتفكير، كلها تقاوم السير في اتجاهات الحضارة والتقدم التكنولوجي، لأن تقديم القيم الطائفية والعشائرية، والجهوية، على بناء الأوطان ومصالح الأمة، يصيب حركة النهوض الحضاري بمقتل، ويخل بكل إمكانيات النقلة الحضارية الممكنة ويشكل عامل هدم للتماسك الاجتماعي في المجتمع.

إن بناء أمة عربية معاصرة تمتلك القدرة والاقتدار، مهمة مستحيلة إلا إذا استطاع الفكر العربي والإسلامي المعاصر، أن يبلور صيغة انتماء جديدة عصرية قومية أو إقليمية قادرة على استيعاب الفئات الاجتماعية والطائفية والقبلية جميعها على امتداد وطننا الكبير في مشروع اتحادي واحد يحمي الحدود ويحفظ الكرامة. 

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى