فتنة المنافذ
بقلم/ مصطفى الزائدي
من أهم مقومات الدولة سيطرتها على حدودها وإدارتها لمنافذها البرية والبحرية والجوية من خلال مؤسسات وطنية تتمثل في أجهزة الجوازات والجمارك والأجهزة الأمنية المختلفة، لكن “الربيع العربي” الذي دمر بلدانًا عربية كثيرة استهدف فيما استهدف تدمير كيان الدولة، بإلغاء سيطرتها على حدودها وفتحها على مصراعيها لكل من هبَّ ودبَّ، وهذا يتضح بشكل واضح في سوريا والعراق وليبيا، فحدود هذه الدول تدار بواسطة مجموعات مسلحة غير نظامية لمصلحة دول أخرى جارة أو بعيدة.
في ليبيا سيطرت الميليشيات الجهوية التي تكونت عقب انهيار مؤسسات الدولة بسبب التدخل العسكري للناتو على الحدود، وتحولت من منافذ للدولة إلى منافذ لمدن ومناطق بعينها في كل الحدود الليبية حتى عام 2016، عندما تمكنت القوات المسلحة العربية الليبية من بسط سيطرتها على المنافذ في المنطقة الشرقية والجنوبية، وبقي الحال على ما هو عليه في المنطقة الغربية التي توجد بها منافذ أكثر أهمية، حيث سيطرت الميليشيات المسلحة في مصراتة على ميناء ومطار مصراتة وهكذا ميليشيات الخمس والزاوية وزوارة ونالوت.
الميليشيات المتحكمة في ميناء ومطار طرابلس حولت المنافذ بطرابلس إلى وسائل لجمع الأموال، ولعلنا نتذكر ما قاله أحد الميليشياويين قبل ما يسمى حرب فجر ليبيا إن مطار طرابلس أهم من أكبر وزارة في ليبيا.
من خلال المنافذ يتم التهريب الرسمي وليس السري، حيث ينساب دخول الممنوعات وتخرج السلع بسهولة من ليبيا وخاصة الوقود والسلع المدعومة إلى الخارج، ويتسلل المجرمون وتجار المخدرات وغيرهم إلى البلاد من دون عناء ومن دون رقابة، فالميليشيات لا تهتم بمراقبة الحدود، بل تهتم فقط بالسيطرة على المنافذ لتحقيق المنافع الخاصة وجمع الأموال، هذا ليس كلامًا مجحفًا دون أسانيد، بل هو ربما أقل بكثير مما يجري في الواقع!
المشكلة ليست فقط في استغلال المنافذ لتحقيق مصالح خاصة وتهديد الأمن الوطني، المشكلة تطورت إلى محاولات إشعال نزاعات جهوية بين المناطق، ولعل حرب فجر ليبيا كانت من أهم دوافعها السيطرة على مطار طرابلس العالمي من قبل مجموعة معينة، الملفت في الأمر ما يحدث في الفترة الأخيرة من بوادر لفتنة أشد خطورة على السلم الاجتماعي الليبي بمحاولة تفجير صراع حول السيطرة على منفذ رأس جدير ومنفذ وازن، بعد قيام المجموعات القبلية بتحويل هذه المنافذ إلى ملكية خاصة لها، واستثمار العدو لوضع المنافذ وتسخير عملائه لتصعيد الصراع بين الميليشيات المختلفة وتحويله إلى صراع بين شعب واحد متجانس متكون من قبائل متجاورة ومتصاهرة ومتحابة، تتشارك العيش في الوطن بكل ود وأخوة في كل ليبيا.
اليوم تقرع طبول الحرب بين العرب و”الأمازيغ” بالترويج لكون منفذ رأس جدير حقًّا طبيعيًّا لزوارة، وبدون الغوص في أصول الزوارية العرقية والاجتماعية فإن زوارة وجيرانها من القبائل الأخرى كانوا يعيشون من دون أي مشاكل، ولم يسجل التاريخ لا البعيد ولا القريب أي صراعات بأي حجم بين سكان تلك المنطقة التي أصبحت حدودية بعد سيطرة فرنسا على تونس وإيطاليا على ليبيا، فرأس جدير في الواقع حد بين المستعمر الفرنسي الإيطالي، أما السكان في المنطقة من صبراتة إلى قابس فهم مترابطون عرقيًّا واجتماعيًّا، ينتمي أغلبهم إلى قبيلة واحدة، وبينهم تواصل وعلاقات اجتماعية واسعة، ولو سلمنا جدلًا بالقول إن الأمازيغيين يشكلون سكان بعض المناطق بها، فإن جربة وزوارة متجانستان، كما أن مدنين وصبراتة والعجيلات والجميل متجانسة أيضًا، وكانت هذه المنطقة بوابة لتسهيل الحركة بين المواطنين وتسهيل التجارة.
بعد 2011، سيطرت الميليشيات في زوارة على المنفذ واعتبرته من الغنائم التي أوصى بها مفتي المجموعات التي شاركت مع القوى الأجنبية في تدمير الدولة الليبية، واعتبروها بوابة لهم. اليوم تحاول الحكومة المفروضة من المجتمع الدولي السيطرة على منفذ رأس جدير، وتواجه برفض قوي من ميليشيات زوارة، وتستند إلى ذلك الحق وإلى قوتها المسلحة وتفرض وجودها في منفذ رأس جدير، محاولة إخراجهم من المنفذ بالقوة ما يعني إشعال حرب مع مجموعة قبلية معينة، وهذا قد يؤدي إلى فتنة أوسع انتشارًا وإشعال حرب أهلية بنوع مختلف بين العرب والزوارية والجبالية في سابقة ستسجل في التاريخ الليبي.
وأنا لست في وارد تقديم النصائح ولا تحليل المواقف ولا تحميل المسؤوليات لهذا الطرف أو ذاك، لكني أنبه إلى خطورة اللعب على هذا الوتر الحساس، فحل مشكلة المنافذ يكمن في تأسيس مؤسسات أمنية وطنية تسيطر على كل المنافذ، ولنا في نموذج المنطقة الشرقية والجنوبية مثال يحتذى، فلقد كان منفذ مساعد حصة مجموعات مسلحة من منطقة طبرق، وهكذا الحال في منافذ القطرون وغات والكفرة وغيرها، لكن بعد أن تمكنت القوات المسلحة من فرض سيطرة مركزية للدولة في هذه المناطق انتهى صراع الميليشيات على المنافذ كليًّا وجزئيًّا. حل مشكلة منفذ رأس جدير لا يتم بإشعال حرب، بل بإنهاء الميليشيات كفكرة وكوجود، فالميليشيات نقيض وجود الدولة مهما كانت نوايا تلك الميليشيات ومهما كانت طيبة المنتسبين إليها، ومهما كان سلوك قادتها، الموضوع ليس شخصيًّا، بل يكمن في الفكر المليشياوي.
فتنة المنافذ أخطر بكثير مما يتصوره البعض، وعلى النخبة الوطنية أن تنتبه لها، خاصة وأن هناك أوداجًا خارجية تنفخ فيها وتصب الزيت على النار!