مقالات الرأي

 حديث الجلاء

بقلم/ مصطفى الزائدي

اتسمت عقود الخمسينيات والستينيات والسبعينيات بالكفاح للتخلص من بقايا الجيوش الاستعمارية التي كانت تحتل أراضيها، فتبنت حركات التحرر الوطني في كل دول الجنوب المُستَعمَر مطالب الشعوب بجلاء القوات العسكرية الأجنبية وتصدر ذلك الكفاح، ثورة 23 يوليو في مصر بقيادة الزعيم الخالد جمال عبد الناصر، التي رفعت منذ لحظة تفجيرها الأولى مطلب الشعب المصري بإجلاء القواعد الإنجليزية، عقبها انطلاق الثورة في سوريا والعراق التي رفعت نفس المطالب الشعبية المشروعة، وازدادت حركات التحرر الوطني في العالم عددًا وتعاظمت قوتها.

‏في ليبيا كان الاستعمار الإيطالي حالة مختلفة، تصور أن ليبيا بلاد شاسعة وقاحلة بعدد قليل من السكان يمكن أن تكون أرضًا إضافية للدولة الإيطالية المحدودة جغرافيًّا، ونمت هذه الفكرة الشيطانية وأخذت طريقها إلى التطبيق بعد صعود الفاشية إلى الحكم في إيطاليا التي استخدمت أبشع وسائل القمع لتحقيق تلك الفكرة المجنونة وضم ليبيا ليس كمستعمرة بل كجزء إضافي لإيطاليا تمامًا أو أسوة بما كانت قد فعلته فرنسا بالجزائر، واعتبرت ليبيا الشاطئ الرابع لإيطاليا، وهجِّر اللبيبون قسرًا من بلادهم، ونقل عشرات آلاف المستوطنين الإيطاليين خاصة من جزيرة صقلية، إلى ليبيا حيث أنشأت السلطة العسكرية الإيطالية بها مجموعة مستوطنات وبنت أحياء سكنية في طرابلس وبنغازي بطراز مشابه تمامًا للمدن الإيطالية لاستيعاب المستوطنين.

بعد الحرب العالمية الثانية جاءت قوات عسكرية من المتحاربين جميعًا وأقامت معسكرات لها في ليبيا، ومنها القوات الألمانية إلى جنب القوات الإيطالية، ومن المعلوم أن جزءًا مهمًّا من معارك الحرب الثانية جرت على الأراضي الليبية، ونجح الإنجليز بعد معارك متعددة طيلة عامين على الأراضي الليبية في طرد القوات الألمانية والإيطالية، وأنشأوا معسكرات وقواعد جوية وبحرية إنجليزية بها.

في واقع الأمر كانت معارك ليبيا في الحرب الثانية معارك إنجليزية ألمانية خالصة دون تدخل الحلفاء الآخرين ميدانيًّا، لذلك امتلكت بريطانيا حق الوصاية على ليبيا بالرغم من عدم وجود أي علاقة أو تواصل معها عبر التاريخ، وعملت على ممارسة سياساتها التقسيمية بها أسوة بما فعلته في الخليج والجزيرة التي بسطت نفوذها عليها لقرون، فأعلنت من طرف واحد إمارة برقة وعينت إدريس السنوسي أميرًا عليها، وأقامت قواعد في طرابلس وبنغازي وطبرق، وسلمت طوعًا الجنوب الليبي إلى الحليف الفرنسي، كما سمحت بقواعد مهمة في الغرب الليبي للولايات المتحدة.

الرفض الشعبي الليبي لفكرة التقسيم والتواجد العسكري الأجنبي كان قويًّا ومستمرًّا الأمر الذي لم تحقق معه بريطانيا أهدافها في تقسيم ليبيا وسيطرة تامة ومستدامة لها بمناورة بارعة من القيادات الاجتماعية الليبية وقبولهم بنظام فيدرالي والشرط البريطاني بإقامة نظام ملكي تابع لهم، ورفضوا تمامًا فكرة القواعد العسكرية، لكن السلطة التي أشرفت بريطانيا على تكوينها لحكم ليبيا رحبت بالقواعد العسكرية كأمر واقع ناتج عن الحرب، ونستطيع القول إن اتفاقيات القواعد العسكرية فرضت على الليبيين ولم تعتمد من مجلس النواب المنتخب رغم ما شاب الانتخابات من تزوير وإبعاد للقيادات الوطنية، تمامًا كما حصل في اتفاقيات الدول الغربية مع دول الخليج العربي والأردن بعد حرب الخليج الثانية، حيث منحت موافقات غير مشروطة لتواجد قوات عسكرية ضخمة في تلك البلدان تحت ذريعة حمايتها من العراق رغم تدميره عسكريًّا وسياسيًّا.

‏النضال الوطني الليبي ضد القواعد استمر خلال عقد الخمسينيات والستينيات حتى نجح الضباط الوحدويون الأحرار في فرض الجلاء عام 1970، في 11 يونيو من ذلك العام خرج آخر جندي أمريكي، وكان الإنجليز قد سبقوهم للخروج في 28 مارس.

التغيير بعد 17 فبراير 2011 مكَّن المستعمر الغربي من العودة إلى السيطرة على ليبيا، وفرضت على السلطات الوهمية الجديدة التي نصبتها الدول الوصية على ليبيا سياسة إهمال الإجلاء وعدم إحياء ذكراه، بذريعة أنه من أعمال النظام السابق، وكذلك فرض عليهم قبول التواجد العسكري الأجنبي بحجة التأمين والحماية، وهكذا رجعت القوات الأجنبية من الباب الذي كانت قد طردت منه في السبعينيات إلى ليبيا محمية من السلطات الشكلية التي نصبت فيها، وأعادت احتلال قاعدة معيتيقة وقاعدة عقبة بن نافع وغيرها من القواعد الإستراتيجية!

على المعارضين للتواجد العسكري الأجنبي في ليبيا، إن كانوا صادقين فيما يقولون، أن يحيوا أولًا معارك الجهاد ضد الإيطاليين، وثانيًا أن يحتفلوا بإجلاء القوات الأجنبية منه، لأن ذلك يساهم في رفع الروح الوطنية وتعزيز الانتماء لفكرة التحرر والاستقلال.

النخبة الوطنية مدعوة لتضع ضمن أولوياتها السياسية ذلك المطلب الهام، مع علمي بأن ذلك ليس بالأمر السهل، لكن الأمور الصعبة تحتاج دائمًا إلى تضحيات جمة.

المجد للوطن.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى