غول الحداثة.. ومسخ الهوية
بقلم/ عفاف الفرجاني
بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، وبعد الانهيار الاقتصادي الذي تعرضت له ألمانيا نتيجة الحصار الذي فرضته عليها اتفاقية فرساي، انتشرت ظواهر أفرزتها المرحلة، مثل انتشار النوادي الليلية وبيوت البغاء والشذوذ والمخدرات كنوع من الاسترزاق السريع نتيجة الفقر الذي عصف بالمجتمع الألماني، وكان أول انهيار أخلاقي بدأ عن طريق انتشار الفن الهابط.
وانتشر نمط من الفن الأمريكي الرخيص، فقد طغت موسيقى الجاز محل الموسيقى الكلاسيكية، وانتشرت رقصات (الفوكس تروت والشارلستون محل الفالس)، حتى الدراما والسينما انقلبت انقلابا جذريا.. مما أزعج النخب الوطنية حينها، وكان قرار دكتاتوري بحت وجه بإحراق الكتب الدخيلة التي تدعو إلى الحريات، وإعدام آلات الجاز في الساحات، وإقفال المدارس المتخصصة في الفنون المتطرفة مثل السريالية… إلخ، حتى وصل بحكام ألمانيا إلى معاقبة النشطاء الجدد بنفيهم إلى سيبيريا في الاتحاد السوفيتي، لإنقاذ المجتمع الألماني من العبث الخارجي الذي يستهدف قيمهم حينها.
الشاهد في ما سبق أن ليبيا تعيش فوضى غير مسبوقة تمس بالقيم والأخلاق، منذ أكثر من عقد من الزمن، ويزداد هذا الوضع سوءا، حيث لم يسلم الفن بشكل عام من التزوير والتدليس، بعد أن رفع عنه غطاء الأخلاق والقيم، فقد شوهت الدراما الليبية من خلال محتوى مضمونه الإسفاف والتزوير وخاصة الدراما التاريخية، حيث يحاول مرتزقة الفكر إقناعنا بما يقدمونه من تشويش هو من نسج خيال أسيادهم، أما الفن الغنائي فقد ضاع وسط ركام الابتذال، وردم مع ذاك الزمن الجميل، ليحل مكانه نشاز يخفي بضجيج كل ما هو إبداع، حتى الأطفال في ليبيا طالتهم موجة الفساد الممنهج، من خلال قنوات فضائية رسمية سلمت لها رقاب الأطفال، وفي بغتة من أوليائهم ينحرون دون رحمة، الوضع الحالي أصبح خطيرا والمستهدف هم النشء.. لا صناع المحتوى الهابط قذفتهم الصدف ولا مترشقو التيك توك أخذتهم العزة بالإثم، ولا المنتحرون بالعشرات طالتهم تعويذات الشيطان، كل ما يحدث وراءه مخرج منبطح لإرادة ممول سادي.
ما نحتاج إليه اليوم حماية قيمنا وأخلاقيات مجتمعنا التي تربينا عليها، فلا الحداثة لها أن تلغي الأصالة، ولا الأصالة تمنع امتزاجها مع الحداثة، وحدها اليقظة مطلوبة مع رصد دقيق للظواهر الهدامة والدخيلة.
علينا أن نواجه هذه الجائحة الأخلاقية التي تستهدف شبابنا، هذه ليست دعوة لنكون مجتمعا جامدا متحجرا يرفض كل ما هو حديث ويهدد التنوير والرشاد، بل هي دعوة إلى انتزاع من يعبثون بصناعة القرار الذين هم في الغالب متورطون، من خلال توجيه علماء وأساتذة العلوم السلوكية من علم النفس وعلم الاجتماع وخبراء علم التربية والإعلام والقانون وخطباء المساجد، وأول خطوة كعلاج لهذه الظواهر هي الاعتراف بجسامة الخطر، وأن هذه الظواهر تفوق العوز المادي.
نحن جزء من هذا العالم الذي تحاربه قوى الظلام، وأثبتت المرحلة أن سياسة المؤامرة هي حقيقة، وليس كما تم إقناعنا أنها من وحي دكتاتوريات حكامنا سابقا.
هم الآن يحاولون إشغالنا عن بناء مستقبلنا وإغراقنا في مشكلات الهوية والصراعات الفكرية والأسئلة الوجودية والصدامات الفلسفية، فالمستهدف اليوم هو هويتنا واستبدالها بمسخ مشوه اسمه الحداثة.