مقالات الرأي

“نور ورولا”.. جريمة حبر ودم

بقلم/ عفاف الفرجاني

جالستني صديقة على فنجان قهوة، تصاعدت مع بخاره أوجاع لم تسقط بالتقادم، ومع كل رشفة كنت أشعر بمرار حكاية تأخذك إلى زاوية ملطخة جدرانها بدم شهيد وبصمة خائن، تجمعهم قصة وطن، أبرمت على شرفه الصفقات المحرمة، وفي خضم الحديث صعقت مما سمعت من أهوال وأنا التي كنت أجزم معرفتي بكل ما حدث وقتها!

ولحظتها أيقنت أنه لا شيء يستحق الكتابة أكثر من تاريخ الشهداء، هو ليس وجعًا ولا حزنًا، هو ليس شيئًا للمتاجرة بالمعاناة، أو قابلًا للتخليد بإعلان الشهادة في لافتة ملونة على قارعة طريق، ولا باسم يطلق على ناصية شارع، إنها قصة روح احتلت القلوب قبل المدن، إنه استشهاد من نوع فريد، لم يرفع فيه سلاحًا، ولم يكن يحمل شرفًا، وحده الجبن سيد المعركة.

صديقتي باذخة الحزن، نبشت ماضيًا رغم وجعه يعيشك عمرًا آخر فوق عمرك عزة وفخرًا، حيث الأضداد تصنع لك حالة ذهنية لتختار المعسكر الذي يليق بإنسانيتك.

كل الأحداث مأساوية إلا حكاية “رولا احميد عبدالسلام” ذات التسعة عشر ربيعا، كانت وجعًا استثنائيًّا في حديثنا.

(عذرًا هذه المرة كل الأسماء تذكر ناقصة إلا أسماء الشهداء كاملة) وبنت خالتها “نور الهدى حسين الطيب” تلك الطفلة التي اختفت ملامح وجهها بصاروخ غادر أرداها قتيلة بين أهلها وذويها، أما “رولا” فلم تكن أحسن حظًّا، فأحشاؤها التي خرجت من بطنها تشهد بربرية الحلف الأطلسي.

“نور” لم تكن المرة الأولى التي تموت فيها، بل ماتت قبلها عندما تلقت جثة والدها “الكابتن حسين الطيب” من الإرهابيين القتلة ما يسمون بـ «أنصار الشريعة» فرع الشرق الليبي وهي مقطعة أشلاء في أكياس سوداء في ربيع عام 2011.

رولا ونور «بنتا خالة» جمعهما بيت أقرب ما يقال عنه إنه ملجأ به أطفال ونساء في ضواحي مدينة سرت المجاهدة.

هم ليسوا وحدهم أبطال الرواية على الأرض، هناك تحت القصف العنيف، نساء لم يعرِّ غطاءه التاريخ ليشهد العالم أنهن رفعن الأكفان فوق أكتاف العزة والكرامة، هذه الحرب كونية فاقت مجازرها إجرام أعتى عصابات العالم شرًّا، هي لا تشبه مجزرة استنقراد، ولا الهولوكوست النازي كما تدعيه الصهيونية، هي إبادة لمدينة لم يبق منها إلا صرخة طفل ونوح مكلومة ودموع الثكالى.

الشاهد في الحديث أن تلك الصديقة المحتسبة أيقظت عندي حقيقة أن دفاتر التاريخ لم تخذل البشرية يومًا، وما يصدره الأحياء هو مسؤولية أخلاقية، والأجيال وحدها هي من تستشف الحقيقة تلقائيًّا.

التاريخ لم يصمت عن “رولا ونور الهدى” نحن من اختار الصمت، أنتم ونحن من خذلنا التاريخ بسكوتنا.

قد لا يتساوى الحبر مع الدم هذه الأيام، ففي وطني الحبر أغلى من الدم، ورغم رخصه اليوم، لكنه سيكون غاليًا غدًا لو كشف المستور.

زر الذهاب إلى الأعلى