من أسرار الصوم (الأخيرة)
بقلم/ الدكتور عبد المجيد قاسم
مع انتهاء هذا الشهر المبارك، لا يسعنا إلا أن نتقدم لعموم المسلمين بالتهنئة على حلول عيد الفطر المبارك أعاده الله علينا، وعلى الأمة الإسلامية بالخير واليمن والبركات.
وبرغم عظم المصاب في ضحايا العدوان الصهيوني على غزة، وسكانها، وبرغم استمرار المجازر، والتجويع، والتشريد لشعب غزة، فإن للعيد فرحته للصائم، وإن كدَّرها وضع أمتنا وهوانها وتفككها.
أخرج الإمام مسلم من حديث أبى هريرة ــ رضى الله عنه ــ أنَ النبي صلى الله عليه وسلم قال: “للصائم فرحتان: فرحة حين يفطر، وفرحة حين يلقى ربه”، وفى رواية: و”للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه”.
قال الحافظ ابن رجب ــ رحمه الله: “أما فرحة الصائم عند فطره: فإن النفوس مجبولة على الميل إلى ما يلائمها من مطعم ومشرب ومنكح، فإذا منعت من ذلك في وقت من الأوقات، ثم أبيح لها في وقت آخر فرحت بإباحة ما منعت منه، خصوصًا عند اشتداد الحاجة إليه، فإن النفوس تفرح بذلك طبعا”.
ولنا أن نستشف من هذا سرًا من أسرار الصوم، وهو الأخذ بخطام النفس إلى ما يسعدها، فالنفس تمل، وينتابها السأم الذي هو باب من أبواب الكآبة والحزن، فيأتي شهر الصوم ليخرجها من دولاب الحياة الرتيب، ويغير لها نمط عادتها، ويرتفع بها عن الماديات إلى الروحانيات والفيوض، لمدة من الزمن، ثم يعيدها إلى ديدنها، وما هي مجبولة عليه، فتكون فرحة العيد التي يستشعرها الكبير والصغير، والتي تفرض نفسها حتى في أسوأ الظروف.
ولأن للعيد فرحة، فهو فرصة للتسامح وطي سجل الماضي، وترك مساحة للتلاقي، وإزالة ما يتركه التشاحن في النفوس.
هو فرصة لمن فرق الشيطان بينهم من الأصحاب، والأقرباء، والجيران، أن يجددوا عهد المودة والوئام، قال تعالى: {وقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هي أحْسَنُ إنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهم إنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإنْسانِ عَدُوًّا مُبِينًا}، [سُورَةُ الإسراء: 53].
ومن أسرار الصوم أن من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فأثره إذن يستمر، ومن صام من قلبه بقي أثر صومه حتى بعد فطره في سلوكه، وفكره، لذا فقد روى عن الحسن البصري أنه مر بقوم وهم يضحكون بعد الإفطار فقال: “إن الله عز وجل جعل شهر رمضان مضمارًا لخلقه، يستبقون فيه لطاعته، فسبق قوم ففازوا، وتخلف أقوام فخابوا، فالعجب كل العجب للضاحك اللاعب في اليوم الذي فاز فيه السابقون، وخاب فيه المبطلون، أما والله لو كشف الغطاء لاشتغل المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته”.
أخيرًا أسأل الله أن يجعل هذا العيد فرصة للوئام في بلادنا، وأن يجمع الفرقاء فيها على كلمة سواء، وهي مصلحة هذا الشعب الذي حباه الله بنعمه، ووحد أرومته، فدينه واحد، ومصيره واحد، وثقافته تكاد تكون واحدة، ولا شيء ذا بال يستوجب استمرار الشقاق، وإطالة أمد الأزمة، وكل ما هو مطلوب أن تصدق النوايا، وأن تسمو النفوس عن أهوائها، نسأل الله ذلك، فهو وليه والقادر عليه. وكل عام والجميع بخير.