صناعة الوهم الجزء الأول
محمد عبد القادر
الوهم يخلق مشكلات ومعوقات بدلًا من أن يساهم في تقدم المرء أو المجتمع للأمام، ذلك أن هناك من يظن أن تخدير الذات وتوهيمها يمكن أن يحل مشكلة معينة، لذلك يلجأ البعض العاجز عن المواجهة وصنع الفعل إلى الهروب إلى الخلف.
صناعة الوهم (المصطلح هنا يعني العمل الزائف الذي لا طائل منه).
الوهم هو رؤية الأشياء على غير حقيقتها مفهومًا بمعنى أوضح أنه يخلق صورًا ذهنية لا تطابق واقع الشيء، فهو لغةً واصطلاحًا في معاجم اللغة العربية “فهمٌ مرجوحٌ مقابل فهمٍ صحيحٍ أو ظنٍّ غالبٍ”.. مع الوضع في الاعتبار أن الحقيقة أساسًا هي شيء نسبي وقياسي، حيث يُعرَّف الشيء بالشيء، كأن تعرف حقيقة سخونة الماء بلمسه، ومن لم يجرب ذلك لا يمكنه أن يؤمن به أو قد يتشكك به، ولهذا قيل في المثل إن الذي يده في الماء ليس كالذي يده في النار “عماد البيليك، صحفي سوداني”.
إن الوهم يخلق مشكلات ومعوقات بدلًا من أن يساهم في تقدم المرء أو المجتمع للأمام، ذلك أن هناك من يظن أن تخدير الذات وتوهيمها يمكن أن يحل مشكلة معينة، لذلك يلجأ العاجزون عن المواجهة وصنع الفعل إلى الهروب إلى الخلف بتناول المخدرات وحبوب الهلوسة لخلق حالة مغيبة موهومة على أنها سعادة وهدوء بال، وهذا ما يجعل البعض يُصِرُّ على ابتكار عوالم حسية بديلة، وهنا يجب التفريق بين الوهم المتأتي عن المعرفة والوهم الحسي الذي هو تجهيل في أساسه وتغييب للعقل.
وبالتالي فالوهم الذي يصبح إيجابيًّا لا يسمى هنا وهمًا، بل يتحول لأمر آخر هو خيال خصب مفيد ورافد للحياة ودفع لها، ومضاده هو التدمير وتغييب معنى الحياة والمضي في الخوف والغرور الكاذب وغيرها من السلبيات التي تعيشها الذات.
إن تاريخ الإنسان مع الوهم قديم جدًّا يبدأ من الوهم المتعلق بفكرة الإنسان عن الوجود والعالم، ولا ينتهي بوهم الحياة المعاشة اليومية، عندما يتخيل إنسان ما أن بإمكانه حل مشكلة معقدة باللجوء إلى حيل غير منطقية يحاول شخص ما خداعه وتبرير ذلك لإقناعه ببذل بعض المال مثلًا، وفي النهاية يجد نفسه قد تورط أكثر بالعيش في حالة التوهم هذه.
لكن أنساق الوهم هي أعقد من ذلك بكثير، لأنها متشعبة ومركبة وتدخل في تفاصيل الحياة المختلفة في السياسة والفكر والثقافة وفي بنى التقاليد والقيم والعادات، فبعض من الموروثات التقليدية التي يداوم شعب معين على فعلها والإيمان بها كمعتقدات لا تقبل الشك ما هي إلا أوهام تسكن الأدمغة يتم تناقلها عبر الإيمان الراسخ والمترسب، فهي لا تخضع للمساءلات ولا المرجعات، لأنها تغلغلت تمامًا عبر قرون طويلة، حيث صار هناك حجاب كثيف يمنع رؤية الطبقة الأولى أو الحقيقة المجردة.
وها هو الكاتب الروسي ألكساندر زينوفيف يحدثنا عن صناعة الوهم فيقول: “أولًا، لا يمكنني أن أفهم أبدًا لماذا يحقق [الوهميون] نجاحًا أكبر من أولئك الذين يقومون بعمل حقيقي؟! لماذا تبدو صناعة الوهم أجدى من العمل نفسه؟!”.
يظل الإنسان بحاجة إلى فكرة الحلم، في تاريخ البشرية، وسوف يتمثل هذا الحلم في أشكال ثقافية وروحية مختلفة، متفاوتة الصلة بالحياة والدلالات، وقد اعتبر العديد من المفكرين أن أحد أجمل تجليات هذا الحلم وأكثرها روحانية إنسانية، هي فكرة الأديان، وعبر تاريخ البشرية توالى على الإنسان عدد من الأديان والعقائد، سماوية أحيانًا وأرضية معظم الأحيان.
ويقول المؤرخ وعالم الاجتماع الفرنسي غستاف لوبون (ت:1931) في كتابه روح الاجتماع: إنَّ بث أفكار في عقول ونفوس الجماعات يجري بثلاث طرق رئيسية:
• التوكيد، متى ما كان تفكير الجماعات بسيطًا وخاليًا من التعقُّل والدليل فإن أهم عوامل التأثير فيه هو التوكيد على فكرة معينة، وكلما كان التوكيد على الفكرة موجزًا ومجرَّدًا عن كل ما له مسحة الحجة والتقرير كان عظيم التأثير، فالتوكيد له قيمة يعرفها أهل السياسة الذين يريدون الدفاع عن عمل سياسي والدفع به.
• التكرار له تأثير كبير في عقول المستنيرين، وتأثيره الأكبر يكون في عقول الجماعات من باب أولى، والسبب في ذلك كون المكرر ينطبع في تجاويف الملكات اللاشعورية التي تختمر فيها أسباب أفعال الإنسان، فإذا انقضى شطرٌ من الزمن نسي الواحد من صاحب التكرار وانتهى بتصديق المكرر.
• العدوى، ويبلغ تأثير العدوى إلى حد أنه يتعدَّى توحيد الأفكار إلى توحيد كيفية التأثير في الحوادث.
والعدوى هي الأصل في انتشار أفكار الجماعات ومعتقداتها لا الحجج والبراهين. إذ الأفكار والمشاعر والتأثيرات والمعتقدات عدوى في الجماعات تماثل في قوَّتها عدوى المكروبات.