مقالات الرأي

في العرض والطلب وبعض خفايا السوق

بقلم: محمد أحمد الشحاتي

يبدو أن الليبيين ولسوء الحظ قادمون مرة أخرى على موجة مضاربات حادة وشرسة، يقف فيها المواطن مكتوف الأيدي وهو يراقب الأحداث المتسارعة التي يشهدها السوق من ارتفاع لقيمة الدولار وفرض رسوم على تداوله وتأثير ذلك على أسعار السلع والخدمات وبالتالي تأثيره على حياته اليومية دون أن يكون له أي دور في هذه التغيرات غير المدروسة في السوق، فهو بذلك عنصر متأثر ومتضرر بالأحداث وبعيد عن دائرة التأثير، وصدق في هذا المشهد القول الليبي المأثور “يتعاركن الارياح يجي الكيد على الساري”.

الضرر أو “الكيد” الذي يتحمله المواطن سواء كان موظفاً في القطاع العام أو حتى في القطاع الخاص يتلخص في فقدانه المرونة للتكيف مع التيارات الجارفة التي ستهب على مدخراته والتي في معظمها عملة ورقية (بنكنوت). حتى وإن احتفظ بها في الخزائن كمادة فلزية إلا أنه لن يستطيع الاحتفاظ بثمنها كقيمة مالية. 

التعليم الذي تلقيناه في المدارس لم يشمل كيف يمكن لنا أن نقرأ الأوراق المالية ولا الاتجاهات الاقتصادية، بافتراض أن دولتنا ستوفر لنا الاستقرار المالي والنقدي، فلن نهتم أن نطارد الفرص الاستثمارية لأنها ستقوم بها نيابة عنا. ولا تستغرب أن تجد أشخاصا في أعلى المستويات الوظيفية لا يعرفون مبادئ الاقتصاد التطبيقي، وهنا لا أتحدث عن التنظير، بل على الممارسة، ففي ليبيا بالكامل لن تجد مكتبا أو وكالة استثمارية يمكن أن تنصحك بكيفية توظيف أموالك أو بالطريقة التي تنقل من خلالها أموالك من مخزن قيمة إلى مخزن قيمة آخر.

حتى وإن تراكم للمواطن الليبي مبلغ ما فإن قرار الاستثمار دائما ما يأتي متأخرا والفرصة الربحية دائما ضائعة والمخاطر تكون في أعلى مستوياتها، أما الاستثمار خالي المخاطرة رغم ضعف أرباحه فهو غير متاح قانونا، ولا توجد أي ضمانات للمخاطرة بأموالك سوى “كلمة شرف” وهي لا تسوى كثيرا في بيئتنا الاقتصادية اليوم، ليس لأن الناس غير صادقين، ولكن لأن أحلام الثروة مغالى فيها.

للعلم لا يحتاج الاستثمار إلى مبالغ طائلة أو أن تكون متوفرة في جميع الأوقات، فقد يكون مبلغ خمسمائة دينار أو ألف دينار مبلغا قابلا للاستثمار في بعض الحالات عندما توجد الوسائط القادرة والموثوقة، ونذكر في هذا الإطار وقبل توسع نشاط البورصة في مصر استطاعت عائلة “الريان” أن تستهدف هذه المبالغ الشاردة وبواسطة “بونزي سكيم” وقامت بسحب المليارات من هذه المبالغ الصغيرة فيما عرف بشركات توظيف الأموال التي اتخذت ستارا دينيا.

إن تواجد الحذاق في المجتمع لا يعني أن يقوموا بتوظيف مهاراتهم التي اكتسبوها من التعليم أو الممارسة لتحقيق ثروات طائلة عن طريق حجب الوعي الاقتصادي عن الأغلبية. كما وفي نفس الوقت لا يجب على الأغلبية أن تستكين لمثل هذا الوضع. أتذكر في بداية السبعينيات قامت الدولة بإطلاق حملات لمحو الأمية، فهل نحتاج إلى مثل هذه الحملات اليوم لرفع الوعي الاستثماري. الأمر ملح لأنه بدون هكذا تطور فإننا سنسير وعيوننا مفتوحة إلى مجتمع طبقي حاد الفوارق، في مجتمع تشكل فيه المرتبات نسبة 60% من الدخل الإجمالي للدولة، وحيث إنه لا يمكن العودة عن ذلك، فلا يمكن إلا أن يتم تحويل هذا الإنفاق الحكومي أو جزء كبير منه إلى مخزن ادخاري وتحفيز ثقافة الاستثمار، وهذا لن يحدث اقتصاديا إلا بتغليب العائد الاستثماري على مستوى التضخم حتى لا يسقط هذا الإنفاق في فخ الاستهلاك.

إن المناداة بزيادة الرواتب وتوزيع الثروة من قبيل توزيع الدعم نقدا، بدون تفعيل آليات استثمار شعبية في متناول الجميع لن ينتج إلا المزيد من التضخم المحفز استهلاكيا، والدرس الأول في محو الأمية الاقتصادية هو أن: الطلب + العرض = السعر.

بخلاف كل المبادئ الاقتصادية التي تعلمناها.

السعر ناتج عن التوقعات، توقعات الطلب وتوقعات العرض وهي صور ذهنية أكثر مما هي واقع على الأرض، وهذا الميزة التي ينبغي على أي شخص أن يتعلمها ليستطيع أن يفوز في العملية الاستثمارية. التحليلات الاقتصادية التي تركز على الوضع القائم وتقدمها إلى الجمهور بصفتها صورة نهائية للطلب والعرض ومن ثم السعر هي تحليلات مضللة، لا يمكن في الواقع الوصول إلى نقطة التوازن النظري للعرض والطلب حتى يتم تحديد سعر ما، فالسعر متحرك ما دام لم يتم الوصول إلى هذه النقطة، وهذا هو الحال في معظم الأوقات.

المناداة بتطبيق آليات السوق الحر بدون وجود الأدوات التي ستسمح للجميع بالمشاركة والاعتقاد بأن المجتمع سيزدهر هو ضرب من الخيال، وهذا لا يعبر عن مبادئ اشتراكية بقدر ما يعكس الواقع. دول ملكية من ألد أعداء الاشتراكية لا تزال حتى اليوم تفرض قوانين تأميم الثروة الطبيعية “الاشتراكية” لتستولي على عوائد النفط وتمنعها من الانتقال إلى الأجنبي لعدم وجود آليات توزيع فعالة محليا.

زر الذهاب إلى الأعلى