مقالات الرأي

رمضان بين عبادة الله وشهوة الاستهلاك

بقلم/ محمد عبد القادر

الأديان؛ والإسلام في مقدمتها وعمقها لأن الدين عند الله واحد، ولأن الدين عند الله الإسلام، تتعدد الرسالات لكن الدين واحد. الصيام هو الشعيرة الثانية التي فرضها الله على المسلمين بعد الصلاة، لكني أضيف أن القراءة هي الفريضة الأولى وتأتي في الترتيب بقية الفرائض، فأول أمر صدر من الله، وأول بيان، وأول آية قرآنية، في أول سورة قرآنية، نزلت على الرسول صلى الله عليه وسلم، “اقرأ”.

رمضان على الأبواب

الصيام فُرض في كل الأديان السماوية بل حتى الوضعية، فهو تدريب عملي إيماني عن الإمساك بتلابيب الشهوات وتنظيمها والزهد فيها والتخفف من أعبائها وأثقالها وما تسببه للإنسان من متاعب وآلام وحتى مآسٍ وكُرُبٍ وكَرْب ومضار جسدية (من مرض وتعب وضيق وعادة وتعود)، ونفسية كثيرة وعديدة (من حسد وغيرة وغلٍ وشعور بالحرمان والفاقة وعقد النقص والشعور بالدونية عند المعوزِين، الشعور بالزهو على الآخرين والمباهاة بالنسبة للقادرين) من كل هذا ولعلاج كل هذه الآثار جعل الله الصيام فرضًا باعتباره مدرسة عملية يتدرب فيها المؤمن شهرًا كاملًا يمسك فيه عن المعاصي وعن إطلاق الشهوات ويتدرب على كبح جماحها وترتيب أوان وحجم إشباعها وتخفيف ارتباطه بها والوقوع بين براثن مخالبها القاتلة على إطلاقها.

جعل الله الصيام مدرسة تربوية عملية عظيمة قادرة على الاحتواء لشهوات الإنسان برفع وتيرة الروحانيات لكي يحكم الخناق على الشهوات ويسترجع روح الإنسان وصفاء نفسه وذهنه وارتقائه من كائن غرائزي إلى كائن روحاني أقرب إلى الله وألطف بغيره من الخلق فتحل في قلبه الرحمة بغيره والإحساس بغير القادرين على مجرد كفاف العيش، فشعوره بالحرمان والزهد يجعله أكثر رحمة ونقاءً وصفاءَ سريرة، فيعود كل ذلك على المجتمع المسلم بالتكافل والتعاون والقربى والعطف والحنان والإحساس الواحد بالحياة والشعور المشترك بالمسؤولية ومعالجة الحسد في ظل العطاء، ومعالجة الحقد في ظل التآلف باقتسام اللقمة والشُربة والشعور الواحد، وزيادة تمتين اللُحمة في المجتمع الواحد مما يقوي بنيانه ويمتن وحدته ويقوي صفوفه ويسد فرج التدخلات في شؤونه ويرفع من الشعور بالعزة والمنعة، لهذا فُرض شهر الصيام شهر رمضان، تلك هي دروس وعبر ومقاصد ومنافع وعمق عبادة، فربنا لا يقصد تعذيب عباده بل تربيتهم وتعلية شأن الروح على رغائب الجسد ومفاسدها إذا فرطت وأفرطت.

أنا هنا لا أُعطي دروسًا لأحد، ولا أُزكي نفسي على أحد، أنما أُخاطب نفسي والعموم بما يجول في خاطري وينعقد في وجداني، لذلك سميناه شهر الخير والبركات والصلاح وتجديد العهد لله تعالى بالصلاح والاعتدال والتآلف بين مجتمع الصائمين والتكافل والمحبة والنهوض بالشأن العام.

لكننا للأسف الشديد حولنا هذه المدرسة العملية العظيمة إلى مهرجان لعرض السلع والأدوات والتسابق في الحصول عليها وتهيئة أنفسنا لإطلاق رغائب الجسد وتمتيع الغرائز وتوحشها، فنحن لا نتهيأ لرمضان روحيًا، لا نجدول يومنا بما سنفعله من أجل ارتفاع الروحانيات وزيادة الطاعات وتمتين الصلات مع الخالق ثم المخلوق وكيف ننظم أورادنا في قراءة القرآن، ليس ختمه 20 مرة، ختمه بحناجرنا بل ختمة واحدة أو نصف أو ربع ختمة بتدبر وتغذية للنفس بالتدبر والتقصي في المعاني والحصول على فرائد الآيات القرآنية ومحاولة الوصول إلى الخشوع والعيش لحظات خارجة عن الحياة المادية التي دفنتنا في المادية والغرائز دفنًا، جردتنا فيه من إنسانيتنا، وروحانيتنا وقربنا من الله تعالى.

كلما اقتربنا من هذا الشهر الفضيل، لا نشعر إلا بحركة الأسواق بالشراء الشره، وما يمكن أن نطلق عليه بحمى الشراء، لأنه ليس حالة عادية معتادة، نشتري ونكدس المواد الغذائية بكميات كبيرة كأننا ننتظر حربًا أو كوارث طبيعية فنخاف فقدان السلع واختفاؤها، ثم نشتري أدوات المطابخ بشكل مهووس وجنوني وكارثي، في الوقت الذي نرى فيه أن عددًا من مطابخ بيوتنا قد قفلت وأصبحت معارض في البيوت للتباهي وإظهار التميز الطبقي، أما الطبخ فالمرأة العصرية لم تعد تحبذه إلا اللائي يرين أن إسعاد عائلاتهن لا يقلل من قدرهن!! لأنها تحررت إلا من الأصباغ وعمليات تحسين الخلقة لا الخُلق بكل الوسائل.

هكذا نستقبل رمضان بحمى استهلاك متوحش وبشع في كل اتجاه يؤدي إلى ارتفاع أسعار السلع وحتى احتكارها المحرم شرعًا وفي رمضان زيادة على ذلك ويزداد التجار هلعًا وتوحشًا وممارسة كل محرم ومكروه لتحقيق الربح بسبب عادات هي ليست من رمضان في شيء، وهنا يذكرني أن أخًا مسلما من الجزائر قد قال: “إن التجار النصارى في فرنسا يخفضون أسعار التمر والحليب مراعاة وشفقة على الصائم المسلم أما التجار المسلمون الصائمون فيرفعونه إلى أقصى سعر ممكن، يا الله!! رحمتك؛ تاجر مسلم صائم يرفع سعر إفطار الصائم بدون مبرر إلا لأنه رمضان، وتاجر نصراني وربما يكون بلا دين يخفض في السعر تعاطفًا مع الصائم المسلم!!! لا تعليق.

ثم تبدأ القنوات الفضائية في بث مسلسلاتها الهابطة سيئة المضمون التي تخاطب الغرائز وتطلق للشهوات العنان، لإلهاء الناس عن صيامهم وقيامهم وعرض كل المشهيات لتذكير الصائم بالاستهلاك وعبادته وليس عبادة الله، فالاستهلاك الذي بسببه تنظم الإعلانات وتزيد الأرباح هو الرب عندهم الذي يجب أن يعبد.

ختامًا نحن نستثني من كل ما ذكرنا مسلمين طائعين رحماء معطين تسموا أرواحهم في رمضان أكثر وزارعين للبر وباحثين عن التقوى طوبى لهم وبشرى.

زر الذهاب إلى الأعلى