الإحباط الممنهج!
بقلم/ مصطفى الزائدي
من ضمن آليات إخضاع المجتمعات للمشاريع الاستعمارية بشكلها الجديد، عمدت دوائر التخطيط الاستراتيجي الاستعمارية إلى ابتداع أساليب جديدة بهدف إخضاع المجتمعات المراد استعمارها وشل قدراتها الغريزية الذاتية في الدفاع عن النفس بنزع كل مقومات المقاومة من بين أيديها، هذا التطور المخفي لم يخضع لكثير من البحث والتحليل رغم كونه إحدى ركائز الحروب الاستعمارية الحديثة، ومن نافلة القول أن نكرر القول بأن للاستعمار وجهًا واحدًا ثابتًا لم يتبدل رغم تغيير التسميات له، من الاستعمار القديم إلى الحديث، ومن الاستعمار التقليدي إلى غير التقليدي، لكن في الواقع مفهوم الاستعمار في شكله ومضمونه لم يتغير وإن اختلفت نظرات الشعوب المستعمَرَة له، فلقد نجح في التمويه وتمكن من تغيير شكله الظاهر حتى يبدو لمن يستعمرهم وكأنه شيء جديد مختلف.
هدف الاستعمار السيطرة على البلدان والتحكم فيها ونهب ثرواتها لمصلحته دون النظر إلى مصلحة شعوبها، وهذا ما يتكرر منذ القرن الثامن عشر إلى هذا اليوم، فالقتل الفظيع مستمر، كما كان في الماضي وحجم وبشاعة الإبادة للشعوب مستمر كما كان وربما بقسوة وضراوة أشد، سواء تلك التي نفذت ضد السكان الأصليين في القارة الأمريكية أو ضد الشعوب في إفريقيا وآسيا، أو ما يجري في غزة اليوم، وهذا دليل واضح على أن للاستعمار وجهًا حقيقيًّا واحدًا، فلا يمكن التمييز بين إبادة الشعب الجزائري في القرن الماضي وما يتعرض له الشعب الفلسطيني اليوم.
الحقيقة التي يتم إخفاؤها بشكل ذكي أن الحالة واحدة سواء في بشاعة القتل أو فظاعة الجرائم أو مستوى نهب ثروات الشعوب، الذي تغير هو أسلوب الدعاية الاستعمارية، وأسلوب منع وتكسير المقاومة له، ففي الماضي كان المستعمر يستخدم القوة المفرطة من الألف إلى الياء، بدءًا من لحظة دخوله حتى خروجه، أما اليوم فيتبع أسلوبًا مختلفًا في إخضاع الشعوب بأن يتلاعب بعقلها الفردي والجمعي، ويركز على زرع حالة من اليأس الشديد في نفوسهم ومن ثم تنمية حالة إحباط فردي وجماعي تؤدي إلى استسلام الشعوب للواقع وقبوله على مضض! يتم ذلك بوسائل متعددة أهمها الحرب النفسية الدعائية بأن ينجح المستعمر في إيهام الشعوب بأن لا فائدة من المقاومة بالترويج لأوهام لإقناع الناس بأن تغيرات كبرى ستحدث لهم تحقق ازدهارًا خياليًّا بما يدفع العامة بأن تقبل دخوله وربما تيسره، ويتمكن الطامعون من ركوب موجة الاستعمار متوهمين أنهم سيربحون، لكنهم لا شك من الخاسرين ويُستخدمون كأدوات محلية لبسط سطوة الاستعمار وخدمة أجنداته، وفي المرحلة الثانية يتم التلاعب بمطالب الناس الحياتية بأن يعسر عليهم سبل الحياة فينشغل الكل في البحث عن لقمة العيش وينسون ما كان يسوق لهم من أوهام ولا يجدون الفرصة حتى للحديث عن معاناتهم، وبين الفينة والأخرى ييسر لهم بعض الأمور الهامشية فيشعرون براحة خادعة.
نظرة عابرة على ما يجري في ليبيا وما جرى في العراق وقبلها في الصومال وأفغانستان تبين طبيعة هذا المنهج الجديد بشكل واضح، فلا ينبغي أن نستغرب لماذا لا يوجد وقود في بلد يصدر النفط والغاز وتصبح أسعاره خيالية في السوق السوداء ولا يتوفر في محطات الوقود؟ ولماذا تختفي السيولة من المصارف والبيوت ومن الجيوب؟ ولماذا ترتفع الأسعار؟ ولماذا تختفي الرقابة على التوريدات؟ ولماذا يدمر الإنتاج كليًّا؟ ولماذا تنهار الخدمات الصحية العامة تمامًا ويحل محلها الخدمات الخاصة المبنية على نهب المرضى وليس علاجهم؟ وكيف نستطيع أن نجد فسحة نفسية ونحن هكذا لنحتفل بافتتاح حنفية أو تدشين مطار وهمي في ترهونة كما فعل السيد سراج قبل سنوات؟ وكيف نقيم احتفالًا صاخبًا لرصف بضعة أمتار من طريق ونعتبره عودة للحياة كما فعل السيد دبيبة وأن نقيم مهرجانًا بإعادة افتتاح ملعب لكرة القدم ندعو له الرياضيين من كل أنحاء العالم ندفع لهم بدون حساب؟ في وقت لا يتمكن فيه المواطن من سحب مائة دينار من حسابه في المصرف وينتظر فيه الموظفون شهورًا لتحال رواتبهم إلى حساباتهم التي لا يستطيعون أن يسحبوا منها درهمًا واحدًا.
هذا التناقض في واقع الأمر هو جزء من المنهج الذي ينفذ لنشر الإحباط حتى نخضع ونستكين ونقلم أظافرنا ونكسر أسناننا!!
فعندما يزداد غضب الناس تفعل آليات امتصاصه فورًا، بأن يُصنَع شيء ما يُحتفل به، فيشعر الناس ببعض من الراحة ويُنزع فتيل الغضب!
الإحباط النفسي الممنهج ليس كافيًا وحده، لذلك يصحبه إرهاب ممنهج أيضًا تمارسه مجموعات مسلحة لم تأت يصنعها المستعمر، بأن يكلف رصيفيين مغمورين لا قاعدة لهما بقيادتها، وذلك حال كل المجموعات المسلحة التي تنشر الفوضى وتمارس الإرهاب وتحمي الفساد في ليبيا!