مقالات الرأي

الانسداد السياسي.. ماهيته ومداه

عبد المجيد قاسم

تتشابه المصطلحات السياسة كثيرًا مع المصطلحات الطبية، فمصطلحات الانسداد، والتأزم، والاحتقان، والتكلس، وغيرها كلها مصطلحات طبية تم استعارتها للتعبير عن إشكاليات سياسية تتشابه مع ما قد يعتري الجسم من أمراض، وما يمر به من نوبات.

وقد تم تشخيص الحالة التي تمر بها ليبيا اليوم على أنها حالة انسداد سياسي، أي كانسداد البلعوم، أو القناة الصفراوية في الجسم.

والانسداد السياسي يعني توقف قنوات الاتصال وفشلها في الوصول إلى حل، فيتوعك البلد كما يتوعك الجسم، وينعكس الأمر على الداخل، تمامًا كما يحدث في الجسم، فالجسم ترتفع درجة حرارته، وقد يصاب المريض بالإسهال والقيء، وكذلك البلد، ترتفع فيه حرارة الأحداث، وتحدث الانقسامات، وينعكس ذلك على حياة المواطن، فترتفع الأسعار، ويحدث إسهال وقيء للعملة الصعبة، فتهبط أمامها العملة المحلية، وقد يتطور الأمر إلى المواجهة المسلحة، في محاولة لمعالجة الأمر بالبتر، أو الاستئصال، تمامًا كالعمليات الجراحية التي يضطر إليها الطبيب عند فشل العلاج بالأدوية والمسكنات.

والانسداد السياسي الحاصل اليوم في ليبيا، ربما لا نحتاج إلى كثير عناء لفهم أسبابه، برغم أن الكتابة عنه من الصعوبة بمكان لصعوبة الحيادية فيه، لكن ما يمكن قوله إن السبب الرئيس هو فوضى الشرعية التي يعاني منها البلد، فالشرعية التي تعكس السيادة على الإقليم من سلطة يرتضيها الجميع، ومعترف بها في الداخل والخارج لا تزال مشتتة، ولا تزال تستند فقط إلى الأمر الواقع، لا إلى الدستور والقانون، لذا يحاول كل طرف من أطراف النزاع قبل كل شيء إثبات أنه الأكثر شرعية، والأكبر تأثيرًا على الأرض، ليتمكن من فرض شروطه عند إبرام أي اتفاق، أو التوصل لأية تسوية، وهذا الأمر ولأنه مجال تنافس يظل العائق أمام الوصول إلى النقطة التي يظنها الجميع فاصلة في الأزمة الليبية، وهي نقطة الانتخابات، برغم أنني لا أرى أن الانتخابات في حد ذاتها يمكن أن تكون حلًّا، بل أراها نتيجة للحل الذي لم يتم التوصل إليه، والذي وصل فيه الجميع إلى نقطة الانسداد.

وعمومًا فالكثير من الأسئلة ربما تكون الإجابة عنها مفيدة للوصول إلى فهم للحالة التي نحن بصددها، وربما يحتاج الأمر إلى العودة إلى نقطة انطلاق العملية السياسية منذ بدايتها، ومراجعة خلفياتها، لتفكيك الإشكال وفهمه، والتساؤلات التي يمكن طرحها هي: لماذا لا يتفق الليبيون على آلية لحل النزاع؟ ولماذا يتم تجاهل مشروع الدستور المنجز منذ 2017م؟ ولماذا تنتج المبادرات السياسية أجسامًا سياسية جديدة وفرقاء جددًا، بدلًا من تقليص الفرقاء بإزالة الهوة بينهم؟ ولماذا يتكرر الفشل عقب كل اتفاق سياسي؟ وكيف فقد الشعب الليبي دوره في العملية السياسية؟ فهذه الأسئلة وغيرها تحمل في طياتها الإجابة عن السؤال الرئيس ألا وهو ما أسباب الانسداد السياسي الحاصل اليوم في ليبيا؟

إن التسليم بأن الشرعية هي أحد محاور النزاع في ليبيا، وأن المحرك الأساسي للصراع اليوم يتمثل في الأطراف الخارجية، ليس من الشطط في الحكم على الأمور، فمع تنامي حجم التدخل الخارجي، وتزايد أطرافه ازداد تعقيد المشهد وأصبحت أدوات الصراع في يد الأطراف الدولية والإقليمية، وهو ما يمنحها تأثيرًا كبيرًا على قرار السلم والحرب.

إذن خلاصة الأمر أن الانسداد المشهود يعكس الهوة بين أطراف النزاع، ويشي بعدم إمكانية الوصول إلى حل (ليبي ليبي) للأزمة السياسية التي يمر بها البلد، ولا غرو في ذلك طالما أن المشهد السياسي الليبي اليوم مُسيرٌ من الخارج بشكل شبه كامل، فالعملية السياسية وما نتج عنها من اتفاقيات وتفاهمات هي منتج خارجي، والأجسام التنفيذية والتشريعية تستمد شرعيتها من الخارج، وهذا الأمر ينسحب على كل المسارات التي بات الأمر فيها يعتمد بشكل كامل على إرادة القوى الدولية والإقليمية وتفاهماتها، وبالتالي أصبحت ليبيا مجرد ملف على طاولة أطراف لا يهمها استقرار البلد، وخروجه من أزمته.

والحل يتطلب أمورًا بعيدة المنال، يتطلب الارتفاع على النظرة الشخصية، وتغليب مصلحة الوطن، والتخلص من الضغوط الخارجية، ومحاولة إيجاد صيغة توافقية بين الأطراف الفاعلة، مع وضع النقاط على الحروف، فلا يمكن بحال الوصول إلى حلول في ظل وجود رؤى مختلفة تصل إلى حد القطيعة، هذا فضلًا عن التخلص من الأجندات، وإيجاد حالة من الثقة التي هي أساس أي اتفاق، هذا ما يتطلبه حل الأزمة الليبية، خلا ذلك سيظل الليبيون ينتقلون من انسداد إلى آخر، كالعيس في البيداء يقتلها الظما، والماء فوق ظهورها محمول!

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى