مقالات الرأي

طيار أمريكي يعتنق الإنسانية

محمد جبريل

تضحيات المقاومة وصمود الشعب الفلسطيني حوَّل فلسطين إلى قضية عالمية إنسانية، لا يحتكرها أحدٌ بدافع القومية أو الدين.

ففي 25/2/2024، أشعل الطيار (آرون بوشنل) في نفسه النار تنديدًا بالحرب الصهيونية الغربية على قطاع غزة، واحتجاجًا على دعم حكومته للصهاينة.

وقبله كانت الناشطة الأمريكية (راشيل كوري) عام 2003 خلال الانتفاضة الثانية دافعت عن الفلسطينيين فدهستها جرافة صهيونية.

(آرون) لم يعرف كيف يعتذر لغزة، أو يكفِّر عن ذنب وجوده كجندي في صفوف جيشٍ شريك أساسي في تلك المحرقة، وبإمرة رئيسه يستمر الاحتلال في محاولته محو غزة وتهجير الفلسطينيين.

شابٌّ مواليد 1999، يعمل في الجناح السبعين للاستخبارات والمراقبة والأمن السيبراني بالقوات الجوية، وصل إلى معلومات بوجود قوات أمريكية تشارك في قتل الفلسطينيين، فأعلن بكلمات مقتضبة عجولة، وبوضوح، وحدة، وصدق، “لن أتواطأ في الإبادة الجماعية بعد الآن، سأقوم بعمل متطرف، لكنه مقارنةً بما يحدث للشعب الفلسطينيّ على يد الاحتلال، ليس تطرفًا على الإطلاق، هذا ما قرره حكامنا أن يكون طبيعيًّا”، ثم بثباتٍ شجاع، وبغضبٍ حارق، يمضي إلى بوابة سفارة الصهاينة بالعاصمة واشنطن ويسكب فوق رأسه الكيروسين عازمًا على “التضحية” ويشعل في نفسه النار، اختار أن يقول “فلسطين حرة حرة” بدل أن يصرخ من الألم، ثم يسقط ليلقى حتفه بالمستشفى بعد سبع ساعات، مطبقًا لمقولة: الموت أولى من العار، والمفارقة أننا شاهدنا أمن السفارة يشهر سلاحه صوب رجل يحترق ويتفحم.

شاب أراد التطهّر بالنار من خطيئة الإبادة التي رأى ذاته ضالعًا فيها لعمله في سلاح الجو الأمريكي وإيصال صيحة غضب ضد طبقة حاكمة لا تسمع هتاف ‎فلسطين حرة المدوِّي في ميادين العالم منذ شهور، فهتف على طريقته عبر البث المباشر، أشعل ‎النار في جسده تنديدًا بإدارة متغطرسة ترفض وقف النار التي تحرق الأطفال والنساء والمدنيين بذخائرها، أراد إحياء ضمائر الأمريكيين وتذكيرهم بالمبادئ والقيم الأمريكية التي أحرقها المتصهين بايدن.

ذلك الشاب، الأمريكي الأبيض لا يربطنا به دين أو عرق أو جوار، فعشرة آلاف كيلو متر لم تفصل بينه وبين غزة والغصة في قلبه مما اكتشف بحكم عمله. إنه المعنى الإنسانيّ، والضمير المستيقظ، والقلب النقيّ، والفطرة التي لم يلوثها الدنس.

لم يقبل (آرون) أن يعيش شاهد زور فقرّر أن يقول لرفاقه إنهم يخدمون هدفًا غير إنسانيّ، وإن “الكيان” ليس دولة الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان بل كيان إرهابيّ، وإن الفلسطينيين ليسوا إرهابيين معادين للسامية بل مناضلون لأجل الحرية.

صحافة الغرب الربحية سعت لتمييع رسالة احتجاج هذا الشاب، فاتفقت على عدم ذكر سبب إحراقه لنفسه رغم أنه أعلن السبب بنفسه في بثه المباشر، فنشرت “عضو في سلاح الجو يشعل النار بنفسه خارج سفارة (إسرائيل) في واشنطن” لا ذكر لغزة أو فلسطين أو الإبادة.

لكنها لم تصمد واضطرت لكشف الحقيقة، وهذا له معان كبيرة جدًّا وخلق توترًا للإدارة الأمريكية واللوبي الصهيوني. هذه العملية ستزيد من الضغط على واشنطن لإيقاف دعمها للكيان.

بعض من طاقم بايدن أسسوا مجموعة ضغط باسم “من أجل وقف إطلاق النار” قالت في بيان لها: “الرئيس بايدن، قائدنا الأعلى، يواصل تجاهل معارضة الموظفين بشأن المعاناة الجماعية الناجمة عن تواطؤ قادتنا”.

هذه المواقف والاستقالات تسلط الضوء على معاناة الفلسطينيين وتفضح جرائم الصهاينة، وتحرج بايدن وإدارته المتواطئة مع الصهاينة، فاضطر بايدن لإعطاء تاريخ بإتمام صفقة الأسرى ووقف الحرب.

وأقيمت وقفات احتجاجية على ذكراه أمام السفارة الإسرائيلية ساهم فيها يهود معارضون للصهيونية، وبعض رفاقه الذين أحرقوا بدلهم العسكرية تضامنًا معه، وقال الكاتب الأمريكي (بيليد)، “العلم الفلسطيني يحاصر سفارة الإسرائيليين، وسيأتي يوم يستبدل العلم الموجود على العمود، بالعلم الجميل الموجود في الشارع”.

وقال السناتور ساندرز: “إن (إسرائيل) خطأ فادح”.

وأضاف: “نحن معزولون، ما زلنا واحدة من الدول القليلة التي تقف إلى جانب “إسرائيل”، وسأفعل ما بوسعي للتأكد من أن لا ترسل الحكومة قرشًا آخر لنتنياهو لمواصلة هذه الحرب الرهيبة”.

وأخيرًا اعترفت الخارجية الأمريكية بعمق المشاعر السائدة في المجتمع الأمريكي بشأن الحرب في غزة.

ستؤثر هذه العملية على الشباب المتحمس لصالح القضية الفلسطينية وضد حرب الإبادة في غزة. وكانت السفارات الصهيونية هدفا للاحتجاجات المستمرة ضد الحرب على غزة بالولايات المتحدة وأنحاء كثيرة من العالم.

كما لوحظ طلب هائل على شراء العلم الفلسطيني في أمريكا، وحمّلت المقاومة إدارة بايدن مسؤولية وفاة الطيار وأضافت: “سيبقى البطل آرون بوشنل خالدًا في ذاكرة شعبنا الفلسطيني وأحرار العالم، ورمزًا لروح التضامن الإنساني العالمي مع شعبنا وقضيته العادلة”.

هل ستوقظ هذه الشرارة وعي الأنظمة العربية وتنصاع لإرادة شعوبها؟

(آرون) أحرج حراس الحدود الوهمية المحيطين بفلسطين، أصحاب الإسقاطات واللقطات، والخطب الرنّانة، أصحاب جسور الإمدادات الغذائية التي لم تنقطع، نحو العدو، وليس سكان القطاع المحاصرين الذين يموتون من نفاد الغذاء والماء والدواء.

رحل (آرون)، بعدما اطمأنَّ على وصول الرسالة بشكل واضح وصارخ، فالسكوت شراكة في الإبادة، ليس انتحارًا ولا يأسًا وإنهاء للحياة، إنه تعبير عن شعور بالألم والوجع إلى حدّ الثقة بأن العالم النائم يحتاج لكي يصحو إلى صرخة لا يجرؤ على إطلاقها إلا أحرار كبار وأبطال من أمثال (أرون بوشنل).

زر الذهاب إلى الأعلى