إصلاح منظومة الدعم السلعي ضرورة لتجنب الأسوأ
عثمان يونس
تابع الليبيون خلال الأيام الماضية السجال الذي حدث بين حكومة “الدبيبة” ومصرف ليبيا المركزي بعد صدور تقرير مصرف ليبيا المركزي عن الإيرادات والإنفاق للعام 2023، الذي أظهر أرقامًا مرعبة عن حجم الدعم الذي أنفقته الحكومة لدعم المحروقات والأدوية وبعض السلع والخدمات التي تجاوزت حسب تقرير المركزي مبلغ 61 مليار د.ل.
وما يثير الدهشة والاستغراب في تقرير المركزي هو ارتفاع حجم الإنفاق على الدعم خلال عامين فقط ليسجل 61 مليار د.ل في العام 2023 مقارنة بمبلغ 20.8 مليارًا في العام 2021 وبنسبة زيادة تعدت 300 % دون وجود ما يبرر هذه الزيادة إلا الفساد وانتشار التهريب الممنهج للسلع المدعومة الذي تنفذه عصابات شرعنتها الدولة بقرارات ومراسيم على أنها مؤسسات أمنية.
وفي إطار السعي لتأصيل هذه المعضلة التي يعانيها الاقتصاد الليبي اليوم وتهدد بانهياره في أي لحظة ما لم يتم تنظيم هذه العملية وتحديد مستحقيها وبالتالي تحديد حجم الإنفاق عليها الذي في كل الأحوال لن يكون بهذا الحجم المهول! فيتطلب الأمر بالتبعية تحديد آلية وصولها لمستحقيها، وفي مقالنا هذا نحاول أن نحلل فكرة الدعم والمغزى منه للوصول إلى الخيارات المتاحة -في ظل الفوضى التي تجتاح البلاد– لتطبيق سياسة دعم حقيقية تستهدف الطبقة المعنية به وتقلل من حجم الاستنزاف للميزانية العامة.
كما هو معروف فإن الدعم السلعي في مفهومه العام هو توفير مواد استهلاكية أساسية أسعارها ليست في متناول الفئات الاجتماعية الأقل دخلًا وذلك عبر تخصيص مبالغ مالية سنوية بالميزانية العامة لسداد الفارق بين تكلفة السلعة أو الخدمة وسعر الحصول عليها، وذلك بهدف التخفيف عن المواطن وتمكين الفئات الأقل دخلًا من الحصول على السلع والخدمات الأساسية عبر خفض أسعارها وفقَ آلية تعتمد على تغطية فوارق الأسعار بين التكاليف وأسعار البيع للمستهلك من خلال خزينة الدولة.
كما أن المتعارف أيضًا من مغزى الدعم السلعي أنه ليس هدفًا لذاته وإنما هو آلية لحفظ التوازنات الاجتماعية كمدخلٍ أولي لتقليص الفوارق في الدخل بما يمكِّن من الانتعاش الاقتصادي الشامل وتقارب مستويات الدخل لدى أغلب الفئات الاجتماعية المتوسطة وقليلة الدخل.
وفي أغلب حكومات العالم الثالث التي اعتمدت سياسة الدعم السلعي برزت ظاهرة المحاباة واستغلال النفوذ في مقدمة التحديات التي يُثيرها موضوع الدعم خاصة المباشر منه، فتحديد الجهات المعنية بتنفيذ عقود الدعم السلعي والخدمي في كل قطاع ودرجة استفادتها كلها إجراءات إدارية محفوفة بمخاطر الرشوة والتأثير واستغلال النفوذ والفساد المالي.
ومن أهم الصعوبات أيضًا تشابك المصالح وقوة النفوذ الذي يتمتع به عادة الفاعلون الاقتصاديون وعلاقاتهم المتشابكة عادة مع أصحاب القرار، وهم أصحاب الكلمة الفصل في موضوع الدعم الذي تُقرَّر تفاصيله غالبًا بعيدًا عن أعين الرقابة التشريعية أو حتى الإدارية والمالية.
ومن الصعوبات أيضًا عدم وضع نظام أمثل لتحديد الفئات المستفيدة، إذ إن التعميم للدعم بدون ضوابط صارمة يؤدي في الواقع إلى تسريب الجزء الأكبر منه وذهابه لغير مستحقيه، فمثلًا أصحاب المصانع ومالكي السيارات الفارهة يستهلكون من المحروقات أكثر بكثير من استهلاك الأسر محدودة الدخل.
ولتلافي ذلك استحدثت بعض دول العالم كما في مصر والهند والبرازيل لوائح وأنظمة مركزية مبنية على قاعدة بيانات الحكومة عن رعاياها، مكَّنت من تحديد المستفيدين ومراجعة أسمائهم بشكل دوري، وتزويدهم ببطاقات إلكترونية مرتبطة بمراكز توزيع محددة لاقتناء السلع المدعومة، وقد نجحت هذه الترتيبات في تقليص نسبة كبيرة من التسريب في مخصصات الدعم لوجود قاعدة بيانات إحصائية تمكن من تحديد المستفيدين ومتابعة التغيرات على مداخيلهم.
قد يكون رفع الدعم السلعي بشكل تدريجي هو الحل لهذه المعضلة، وإن كان ذلك لا يخلو في الغالب من اضطرابات اجتماعية، ولاسيما إذا كان رفع الدعم لا يتناسب مع تحسّن المرتبات ولا تواكبه إجراءات مصاحبة تخفف عن الشريحة المستهدفة غلاء الأسعار، وقد يكون الحل في استبدال الدعم السلعي بالنقدي مما يتطلب البدء في إعداد قاعدة بيانات متكاملة تشارك فيها كل المؤسسات المعنية مما ينقلنا إلى أن الأصل في الحل هو الاستقرار ثم الاستقرار ثم الاستقرار، الذي من دونه سنظل في دائرة التشكيك والتخوين، لأن الفوضى لا تجلب إلا الفاسدين، ولا تُؤمِّر إلا السراق الذين لا يعنيهم اقتصاد دولة ولا استدامة مالية بقدر ما تجلبه لهم كراسيهم من أموال ستهرب هي الأخرى إلى الخارج لـ “تزيد الطين بلة” وتسهم في انهيار ما تبقى من قدرة للدينار على الصمود، كما أن السيطرة الأمنية الكاملة للدولة على الحدود البحرية والبرية والجوية وإنهاء المهازل التي تحدث اليوم والفوضى التي يراها القاصي والداني في عموم منافذ البلاد، ضرورة حتمية في ظل الوضع الراهن، ومن دون ذلك سيستمر النزيف وسيرتفع حجم الإنفاق وسيتضاءل الاحتياطي وسيهوي الدينار أكثر وأكثر.