المرتبات وما أدراك ما المرتبات!
عبدالمجيد قاسم
عندما لا تكون لدى الدولة استراتيجية لتوجيه القوى البشرية بشكل مدروس ومخطط له، يكون اختيار التخصصات خبط عشواء، ويكون الهدف بعد التخرج الحصول على وظيفة، ويكون التدريب المهني ملاذًا فقط للفاشلين.
يعد موضوع المرتبات الشغل الشاغل للشريحة العظمى من الشعب الليبي، فالجميع لا تجد له همًا أكبر من المرتب، والهم يصل ذروته إذا تأخر المرتب، فإذا تم قبضه ووضعه في الجيب فالهم يتحول إلى طريقة التصرف فيه، وتتعلق بذلك هموم أخرى، فمن هم الأسعار، إلى هم السيولة، ومن هم الزيادات، إلى هم الترقيات، ثم التسويات، فالتعيينات، أي سلسلة لكنها تربط الجميع، تربط الموظف الذي هو مستهلك، والتاجر الذي يستقر عنده المرتب، والمزارع، والمستورد، والمورد، وحتى أطفال الروضة الذين فهموا حكاية المرتب، فلا يطلبون شيئًا حتى ولو كان قطعة حلوى، إلا بعد سؤال الأب، بابا، نزل المرتب ولا ما زال؟
وإشكالية المرتبات تختلف من دولة إلى أخرى، فالدول الريعية التي هي مثل ليبيا ينظر أهلها إلى المرتب الذي غالبًا تعطيه الدولة على أنه حق مكتسب، فهو ليس مقابل عمل، بل جزء من الريع الذي يجب أن يستفيد منه الجميع، فتجد الغالبية بمرتباتهم، وتجد فائضًا من الموظفين يزيد أضعافًا مضاعفة عن المعقول، لذا لا غرابة إن علمت أن حاجة الجهاز الإداري في ليبيا لا تتعدى الثلاثمائة ألف موظف، في الوقت الذي يتخطى عدد الموظفين الذين يتقاضون مرتبات من الدولة حاجز المليونين ونصف مليون موظف وموظفة، مع وضع خط تحت موظفة، فشريحة النساء شريحة طاغية في معظم القطاعات، وهذا يعكس بالإضافة إلى الحاجة الفعلية حجم الأداء الفعلي، أو لنقل معدلات الأداء، التي هي أقل من المعدلات المرجوة بمراحل، ولو قارنا ليبيا بتونس على سبيل المثال، فسنجد أن الفارق كبير، فتونس ذات الأحد عشر مليون نسمة لا يتعدى عدد موظفي الدولة فيها الثمانمائة ألف موظف وموظفة.
والإشكالية مركبة، فهي ثقافة من جهة وسوء تخطيط من جهة أخرى، والثقافة أتى بها سوء التخطيط، والأمر في ليبيا قديم، أي منذ العهد الملكي عندما كان حلم سكان الدواخل السكن في الشعبيات والحصول على درجة غفير في إحدى المدارس أو المنشآت، وتطور الأمر عندما وجدت شريحة من الموظفين الليبيين الذين يعهد إليهم ببعض الإدارات فيكون على رأس أولويات المسؤول تعيين عدد من أبناء عمومته في الإدارة التي عهد إليه بتولي مسؤولياتها.
وسوء التخطيط يبدأ من التعليم، عندما لا تكون لدى الدولة استراتيجية لتوجيه القوى البشرية بشكل مدروس ومخطط له، فيكون اختيار التخصصات خبط عشواء، ويكون الهدف بعد التخرج الحصول على وظيفة في الدولة، ويكون التدريب المهني ملاذًا فقط للفاشلين، وليس الموهوبين، ويكون القبول في الكليات بالطلب وليس بالتنسيب وفق حاجة السوق، ويكون النجاح حليف الجميع، أي هيا بنا ننجح!
وسوء التخطيط يطال نظام المرتبات، وقد يصل إلى حد التخبط، كما هو حاصل اليوم، فالتنافس اليوم بين موظفي القطاعات هو في الظفر بجدول مرتبات خاص، والثغرة موجودة في القانون، والشطارة هي في الوصول إلى مجلس النواب، حيث تلعب المعرفة دورها في تمرير مشروعات القوانين، وإذا لم تنجح المعرفة فسلاح الاعتصام موجود، ونداء على صفحات الفيسبوك يكفي لأن يسحب الجميع بطانيته فوق وجهه، ليبدأ الاعتصام الذي هو في حقيقته إضراب يعاقب عليه القانون.
إن إشكالية المرتبات هي إشكالية رديفة في واقعها، أي تابعة، فالإشكال الرئيس الذي تعاني منه ليبيا كدولة هو -كما ذكرنا- سوء التخطيط الذي ترتب عليه تضخم الجهاز الإداري، وهذا الأمر يعكس المناخ الاقتصادي الموجود، فالمناخ الاقتصادي الليبي قائم على الاستهلاك لا الإنتاج، وقائم على استنزاف الثروة المحلية لا الحفاظ عليها وتعويضها، لذا فالأمر جد خطير، وإن لم تكن ثمة وقفة جادة تبدأ من أهل الخبرة، وتنتهي لدى أهل القرار فالثمن المؤجل ستدفعه الأجيال القادمة، والثمن المعجل هو ما ندفعه نحن اليوم بما نمر به من أزمات سيولة، وتضخم، وتأخر في صرف المرتبات، وبطالة لدى شريحة الخريجين، وتلك السلسلة بنت سليسلة على حد تعبير أبي حنيفة النعمان!