مقالات الرأي

دول الجنوب العالمي الصاعدة

محمد بوخروبة

الولايات المتحدة أصبحت تشعر أكثر فأكثر بعدم الارتياح إزاء ازدواجيتها في التعامل مع العدوان على غزة، إذ تحثُّ على وقف إطلاق النار من أجل تحرير الرهائن الإسرائيليين وتقليص الخسائر البشرية الفلسطينية، وتستمر في الوقت نفسه في تزويد إسرائيل بالأسلحة

البرازيل تسحب سفيرها من إسرائيل، احتجاجًا على جرائمها في غزة، ودول التطبيع والعار تمد لها يد العون والمساعدة، ويحضرني قول المتنبي.. (من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام).

أثار الرئيس البرازيلي لويس دا سيلفا، جدلًا أثناء مشاركته في قمة الاتحاد الإفريقي يوم الأحد قبل الماضي، حين صرّح قائلًا إن ما يحدث في قطاع غزة ليس حربًا، إنه إبادة جماعية، هذه ليست حرب جنود ضدَّ جنود، إنها حربٌ بين جيش على درجة عالية من الاستعداد، ونساء وأطفال، هذا لم يحدث في أي مرحلة أخرى في التاريخ، في الواقع سبق أن حدث بالفعل حين قرَّر هتلر أن يقتل اليهود.

لم يكن مقبولًا في نظر الكثير من اليهود تشبيه سلوك إسرائيل بالنظام النازي، الذي خطّط ونفّذ عمليات القتل الجماعي بحق اليهود خلال الحرب العالمية الثانية، لذلك أصدر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بيانًا قال فيه إن مقارنة إسرائيل بالنازيين وهتلر تجاوزٌ للخط الأحمر.

ظلّ صدى القضية الفلسطينية يتردّد في دول مثل البرازيل وجنوب إفريقيا، والهند حتى فترة ليست ببعيدة، في الواقع ثمّة شرخٌ ذو رمزية كبيرة بين موقف جنوب إفريقيا التي اتّهمت إسرائيل بارتكاب جرائم إبادة جماعية أمام محكمة العدل الدولية، وإدارة بايدن في رفضها المتغطرس لهذه الخطوة المشروعة باعتبارها باطلة، إذ لا أساس للاتّهامات الموجّهة إلى إسرائيل بارتكاب جرائم إبادة جماعية، وحتى حين أظهر القرار المؤقت الذي صدر عن محكمة العدل الدولية، على الأقل أن هذا الاتّهام يستند إلى أساس ذي مصداقي.

لهذه الخلافات حول سلوك إسرائيل بين الجنوب العالمي وكثيرٍ في الغرب، ولا سيما النخب السياسية الغربية، تأثيران متضاربان.

فمن جهة عمدت بعض الحكومات الغربية التي سارعت إلى الوقوف إلى جانب إسرائيل بعد هجمات 7 أكتوبر إلى النأي بنفسها عن وحشية الردّ الإسرائيلي، فعلى سبيل المثال، تدعو فرنسا راهنًا إلى وقفٍ دائم لإطلاق النار في غزة، وإيصال كميات كبيرة من المساعدات الإنسانية إلى القطاع، وفي فبراير حذت حذوها المملكة المتحدة التي تُعدّ مُلحَقة بالولايات المتحدة في الكثير من الأحيان، حين طالب وزير خارجيتها ديفيد كاميرون بـوقف القتال على الفور، بدلًا من دعم الهجوم الإسرائيلي المخطّط له على مدينة رفح المكتظّة بالسكان.

والحكومة البريطانية تدرس الآن أيضًا الاعتراف بدولةٍ فلسطينيةٍ قبل التوصّل إلى أيّ اتفاق بين الفلسطينيين والإسرائيليين، حول قضايا الوضع النهائي في المفاوضات الرامية إلى إنهاء الصراع بينهما، يُنظَر إلى هذه المقاربة البريطانية على نطاق واسع على أنها مرتبطة بنيّة الولايات المتحدة القيام بالأمر نفسه، ما أثار غضب الحكومة الإسرائيلية، فالولايات المتحدة أصبحت تشعر أكثر فأكثر بعدم الارتياح إزاء ازدواجيتها في التعامل مع الصراع في غزة، إذ تحثّ على وقف إطلاق النار من أجل تحرير الرهائن الإسرائيليين وتقليص الخسائر البشرية الفلسطينية، وتستمر في الوقت نفسه في تزويد إسرائيل بالأسلحة.

في غضون ذلك، أتاح تأييدُ الكثير من الحكومات الغربية سلوكَ إسرائيل هامشًا أمام دول الجنوب العالمي الصاعدة، مثل البرازيل وجنوب إفريقيا، لتحدّي الهيمنة الغربية على الشؤون الدولية، فقد لجأ الجنوب إفريقيون إلى محكمة العدل الدولية رافعين قضيّتهم إلى مؤسسة قضائية لطالما كانت لواشنطن علاقة متضاربة بها، إذ إن الولايات المتحدة لا تحبّ الخضوع للقانون الدولي عندما قد يشكّل ذلك تحدّيًا لمصالحها السياسية، وعلى نحو مماثل لم يصادق الأمريكيون قطّ على نظام روما الأساسي الذي أُنشِئَت بموجبه المحكمة الجنائية الدولية.

يشكّل هذا الأمر استخدامًا مبتكرًا للمؤسسات الدولية لإحراج الولايات المتحدة وداعمي إسرائيل الآخرين، إذا لم تكن هذه المؤسسات فعّالةً إلا إذا أكّدت تفوّق القرارات الغربية وصانَتْها، فهل من وسيلةٍ أفضل من تسليط الضوء على هذا الوضع الشاذ لتُعزّز الدول الصاعدة موقعها على الساحة العالمية؟

ولكن قد تكون الأمور آخذةً في التحوّل قليلًا، فقد أعدّت إدارة بايدن مشروع قرار لمجلس الأمن يدعو للمرة الأولى إلى وقف إطلاق النار في غزة، ويحذّر إسرائيل من شنّ هجوم على رفح، قامت الإدارة بهذه الخطوة لأن الجزائر كانت تُعِدّ قرارًا آخر لوقف إطلاق النار، صوّتت واشنطن ضدّه في 20 فبراير، فقد كان على إدارة بايدن أن تطرح بديلًا موثوقًا ردًّا على أصوات الإدانة المتزايدة للتصرّفات الأمريكية.

تُظهِر الولايات المتحدة من خلال قيامها بذلك أنها قادرة على استيعاب منتقديها، إذ لا يمكن تفسير مثل هذه التحوّلات سوى بأن الكثير من الدول الغربية يواجه سخطًا محليًا ودوليًا متصاعدًا بشأن غزة، ولا سيما من بلدانٍ في “الجنوب العالمي”، فالخسائر في صفوف الفلسطينيين تتزايد، وسكان غزة يُحرَمون الكميات الكافية من الغذاء، وهو ما وصفته منظمة حقوق الإنسان الإسرائيلية بعبارات واضحة “إسرائيل تجوّع قطاع غزة”.

الولايات المتحدة تؤدّي دورًا قياديًّا في السعي إلى إرساء نظام دولي قائم على القواعد، هي تضطلع بهذا الدور في بعض الأحيان، ولكنها غالبًا لا تفعل، بل إن الأمريكيين كثيرًا ما عملوا جاهدين على إضعاف المؤسسات الدولية التي يرَوْن فيها تهديدًا لنفوذهم، في خضمّ عملية إعادة الترتيب العالمية، لن يكون من السيّئ على الأقلّ في ما يختصّ بالشرق الأوسط، السماح لدول أخرى بأن تؤدّي دورًا أكبر في رسم مستقبل المنطقة، فقد يكون مسارها مُعبَّدًا بقدرٍ أقلّ من النوايا السيّئة.

زر الذهاب إلى الأعلى