مقالات الرأي

السياسة وتداعياتها على الاقتصاد

عبدالمجيد قاسم

لا شك أن الاستقرار في أي دولة هو نتيجة لتضافر مجموعة من العوامل التي تعمل سويًّا وبشكل متساوق، لتفادي الأزمات، وعلى رأس هذه العوامل العامل السياسي، والعامل الاقتصادي، والعامل الاجتماعي، فثمة عوامل أخرى ليست أقل أهمية، ولكنها تابعة للعوامل الثلاثة المذكورة، مثل العامل الأمني، والعامل الديموغرافي، والعامل الديني.. الخ.

وحتى يتم ربط الموضوع بالواقع، فإن الخلفية الذهنية لما سيلي من أسطر هو هذه الأزمة التي بدأنا في شق غمارها في ليبيا، والتي تتمثل في انخفاض سعر صرف الدينار الليبي أمام العملات الصعبة، وارتفاع الأسعار بشكل دراماتيكي، وتأخر صرف المرتبات، ونقص السيولة، فهذه هي خلفية المقال، محاولين الإجابة عن التساؤل الآتي: هل ثمة تأثير سياسي فيما يحدث على صعيد الاقتصاد في ليبيا؟ أو بعبارة أخرى هل ثمة علاقة بين هذه الأزمة الاقتصادية ومعطيات السياسة؟

إن الإجابة عن هذا السؤال تتطلب معرفة مدى علاقة السياسة بالاقتصاد، فهل هي علاقة الأسباب بالمسببات، أم أن ثمة علاقة ولكنها غير مؤثرة، أم أنه لا توجد علاقة من الأساس؟ وإذا كانت ثمة علاقة فأيهما أكثر تأثيرًا في الآخر، السياسة أم الاقتصاد؟

إنه من نافلة القول أن نقرر أن السياسة ضرورية للوصول إلى اقتصاد أمثل، وهذا القول ليس قولي، بل هو ما ذهب إليه كبار المفكرين أمثال (ماركس) و(ابن خلدون)، كما أن الواقع يشهد بأن التأثير المتبادل بين العامل الاقتصادي والعامل السياسي هو من المسلَّمات، فالتغيرات السياسية تحركها عوامل اقتصادية، والاقتصاد القوي العادل لا يمكن تحقيقه في ظل الاضطرابات السياسية، هذا من ناحية النظر، ومن ناحية الواقع فإن ما يشهده العالم منذ بدء الحرب الروسية الأوكرانية هو عبارة عن أزمة سياسية بالأساس، لكنها تسببت في أزمة اقتصادية عالمية، وقد توقع صندوق النقد الدولي في بداية الحرب تراجع معدل النمو العالمي من 5.9 % في العام 2022م إلى 3.1 % خلال ذات العام، كما تشير التوقعات إلى أن معدل النمو العالمي سيظل 3.1 % في 2024 ويرتفع إلى 3.2 % في 2025. كما أن ما قامت به البنوك المركزية من رفعٍ لأسعار الفائدة الأساسية بهدف مكافحة التضخم، وسحب دعم المالية العامة وسط ارتفاع الديون قد أثرا سلبًا على النشاط الاقتصادي.

إذن وبعيدًا عن الأرقام فإن تداعيات الأزمات السياسية لها تأثيرها المباشر في المناخ الاقتصادي، وهذه التداعيات السياسية لا تقف عند حدود بؤر الصراع، بل تتعداها إلى غيرها من المحيط الجيوسياسي.

فإذا نظرنا إلى المحيط الجيوسياسي الليبي، فإنه مؤثر ولا شك في السياسة الليبية، فليبيا تتأثر بما يحدث في دول الجوار، وتتأثر أيضًا بالأزمات ذات الطابع الدولي، فعلى صعيد دول الجوار وخاصة مصر، الجارة الأولى والأقرب، فإن انهيار سعر الصرف للجنية المصري أمام العملات الأجنبية، لا شك أنه يؤثر على تقرير سعر الصرف للدينار الليبي، فقرار تحديد هذا السعر هو قرار سياسي بالأساس، تراعي فيه الدولة أحيانًا أمنها الديموغرافي، فتتوخى قدر استطاعتها حدوث هوة كبيرة قد تسبب منطقة فراغ جاذبة من الناحية الاقتصادية مما قد يؤدي إلى تدفق أعداد من الناس باحثين عن نوع من الملاذ الاقتصادي، لأنه إن لم تراع مثل هذه الأشياء بتدابير تكون قاسية أحيانًا فإن الخطر قد يكون حتميًا على الصعيد الأمني للدولة.

إن الخريطة الاقتصادية للعالم لا يمكن النظر إليها كحلقات منفصلة، بل هي حلقات متداخلة، بينها مناطق تقاطع، وهذا الأمر تتم مراعاته على جميع الأصعدة، لذا لا غرو في أن يكون السبب الخفي دائمًا وراء التدخل العسكري للدول الكبرى في بعض الدول هو سبب اقتصادي، فبعض القرارات الاقتصادية هي سياسية بالدرجة الأولى، لذا فالحكمة السياسية تتطلب اتخاذ قرارات اقتصادية ذات طبيعة سياسية، لتوخي حدوث أزمات سياسية قد تهدد أركان الدولة، وقد تؤدي إلى استعداء دول المركز، التي تمتلك العصا الطولى في السياسة الدولية.

لذا، فإن الإجابة عن السؤال المحوري في هذا المقال هي بالإيجاب، وهي أن ما نمر به -كمواطنين- من أزمات اقتصادية بين الحين والآخر، هو إجراءات قد تكون ضرورية، وأحيانًا مفروضة من الناحية السياسية، وهي تخضع للحسابات الإقليمية وأحيانًا العالمية السياسية منها والاقتصادية، ومدى الاستجابة لهذه الحسابات، ومدى مقاومتها أو رفضها، أو تغليب مصلحة الدولة وسيادتها أمور تتوقف على مدى استقلالية السلطة القائمة، وقوتها، وهو ما تختبره كيفية التعامل مع ما ذُكر.

أخيرًا أقول إن أمن أي دولة واستقرارها هو من أمن محيطها واستقراره، فلسنا منفردين في العيش على هذه البسيطة، والأمر يتطلب من السلطات القائمة قدرًا من الحكمة، ويوازيه قدرٌ من الشفافية، خاصة مع ازدياد نسبة الوعي وارتفاع مؤشر التعليم لدى الشعوب، فما نلاحظه هو وجود حالة من تهميش الرأي العام، والاستخفاف به، بحيث تحدث الأزمة تلو الأزمة دون أن ترى من يخرج من المسؤولين ليوضح للناس، وهذا ما ترتب عليه فقدان المصداقية في من لديهم سلطة اتخاذ القرار، برغم أن المتوخى في أي حكومة رشيدة هو الحفاظ على مصداقيتها لدى شعبها مهما كانت الظروف.

زر الذهاب إلى الأعلى