مقالات الرأي

سياسة بريطانيا الاستعمارية وقشة الملكية

ناجي إبراهيم

الغريق يتعلق بقشة فهي لن تنجيه من الغرق، ولكنه يتوهم أنها طوق النجاة الوحيد والممكن وهو يشهد الموت يطارده.

يبدو أن القوى الاستعمارية تنتهج سياسة تقوم على تجسيد هذا المثل وتجريبه بصدد إنتاج نظرية سياسية تنطلق من فرضية الغريق والقشة.

بات هذا جليًا وواضحًا في مختلف الساحات والمناطق التي تشهد نزاعات وصراعات، بسبب التدخل الخارجي أو لأسباب داخلية فتحت الباب لتدخل خارجي، دائما وفي كل التجارب لن تجد صراعا داخليا يدوم، وإلا كانت أطراف خارجية تستثمره كبوابة للدخول بحجة تقديم مبادرات للحل، ولا تنتج هذه المبادرات إلا مزيدا من توليد الأزمات تغذي الفوضى وتقوض الاستقرار وتسمح للمتدخلين بالتحكم في مفاتيح الأزمة ومحاولة الاستفادة منها وتحويل البلاد إلى ساحة للصراعات الدولية وبأيادي أهل البلاد.

التدخلات الخارجية والمدفوعة برغبة التوسع والسيطرة الاستعمارية حولت عددا من البلدان التي تعرضت للاحتلال إلى مختبرات لإنتاج الفوضى وتطبيق الحلول المجرّبة التي لا تنتج إلا مزيدًا من الفوضى والفشل والفساد، وذلك ناتج عن سياسة استعمارية ممنهجة ومعدّلة، فهي لا تشبه سياسات الاستعمار القديم الذي تدخل بوجه سافر تحت شعار الاستعمار الذي تكشفت ملامحه مع حجم التدمير والخراب وحجم القتل وسياسات التهجير والنفي والإعدامات التي طالت جميع المعارضين والمقاومين لعملياته الهمجية والبربرية.

الاحتلال الأمريكي لأفغانستان الذي كان تحت شعارات محاربة الإرهاب، لم يقض على الإرهاب بل فاقمه ووسع دائرة انتشاره في ساحات أخرى وبعيدة عن أفغانستان، وكانت القوات الأمريكية الغازية هي أول المتضررين من سحر سياسات الإدارة الأمريكية التي ألقى بها في أتون الموت وباتت تحصد الخسائر في البشر والعتاد والأموال، وفشلت السياسة الأمريكية في مواجهة الفوضى بالفوضى والإرهاب بالإرهاب، ولم يحصل المواطن الأفغاني الذي رحب وصفق للغزو الأمريكي على الأمن الذي وعدوه به وعن الدولة الديمقراطية التي حلم بها، وعقب هروب القوات الأمريكية وجد الأفغاني نفسه بلا دولة وعادت دولة طالبان التي كانت أحد مبررات التدخل العسكري الأمريكي.

العراق التي تعرضت هي الأخرى للاحتلال الأمريكي بنفس أدوات الاستعمار القديم في مخالفة سافرة لميثاق الأمم المتحدة التي تأسست عقب الحرب العالمية الثانية التي تكبدت خلالها البشرية خسائر فادحة في الأرواح والثروات، والتي تسببت فيها السياسات الاستعمارية القديمة، وتعهد الميثاق بعدم العدوان وإدانة كل السياسات التي تقود البشرية نحو الصدام والحروب، ورغم ذلك غزت القوات الأمريكية بمشاركة بريطانيا ودول أخرى العراق وضربت بميثاق الأمم المتحدة عرض الحائط، ونصبت حاكمًا أمريكيًا عليها وفرضت عليها دستورًا يسمح لها بالتدخل في الشأن الداخلي العراقي وجسرًا لا يعبر عليه إلا من تم إنتاجهم في معامل الـcia وها نحن نرى الفشل والفساد والفوضى التي تعيشها العراق في ظل دستور بريمر وبحماية القوات الأمريكية.

ليبيا ليست استثناء، فقط لم يجدوا فيها طوائف متناحرة أو أعراقا متعددة لتكون فتيلا لمشروعهم التقسيمي التفتيتي، وجدوا إرثا جغرافيا صنعوه هم عند احتلالهم لها بعد الحرب العالمية الثانية وتقسيمها جغرافيًا بين المنتصرين تحت ما يسمى الفيدرالية، وأوجدوا لها تدخلات أجنبية متعددة ومتعارضة، صارت تتقاسم المناصب وفقًا لهذا المشروع، فكل يدفع بالعائلات الذي دعمته قبل أكثر من خمسين عامًا، وظهر ذلك في إطار تعميق التقسيم عن طريق المحاصصة التي ظهرت في حكومة الصخيرات التي منحوها تسمية حكومة الوفاق، فلم تتحصل على توافق في برلمان طبرق، ورغم هذا أمسكت بالسلطة بدعم الخارج وفي ظل وجود حكومة في شرق البلاد لم تحظ بذات الدعم، ونتج عن ذلك دخول البلاد في حرب كادت تتحول إلى حرب أهلية.

أنهيت مهمة حكومة الصخيرات حيث لم تستطع تأمين كامل المصالح والحصص لصانعيها، وجاءوا بحكومة قالوا عنها حكومة الوحدة الوطنية ونالت ثقة البرلمان مرغمًا لمقايضة بقائه باعتماد حكومة جنيف فآثر البقاء، ولم تعكس تسميتها واقع الحال، بل شهدنا ميلاد حكومة موازية عن البرلمان الذي سحب الثقة منها وأعطاها للحكومة الوليدة التي لم يمكِّنها الخارج من تولي مهامها من العاصمة، ونزداد غرقًا وانحدارًا للقاع والخارج يرمي لنا في كل مرة قشة نعتقد أنها خشبة النجاة من وضعنا المزري على جميع الصعد.

ومع (باتيلي) المبعوث الدولي الجديد يتم التلويح بحكومة ثالثة قد تفرض من إحدى العواصم كقشة نجاة، ‎وهم يدفعوننا إلى قاع البِركة لنغرق أكثر حتى نتمسك بأي قشة يلوحون بها، ها هي بريطانيا وهي توقظ أطماعها وسياساتها القديمة تلوح لنا بقشة الملكية (الدستورية) في إشارة لعائلة إدريس السنوسي الذي ملكته علينا في منتصف القرن الماضي مقابل ضمان وجودها العسكري والاقتصادي وتدخلها السياسي في بلادنا، معتقدين في صحة المثل (الغريق يتعلق بقشة).

النظام الملكي الذي بات من التاريخ ولم يعد له وجود في الجغرافيا حتى في بريطانيا (أم المملكات) لم يوجد له مكان، بل انحسرت جغرافيته في مجموعة قصور منتشرة في كبرى المدن البريطانية، سلطاته لا تتجاوز بوابة القصر وتفقد الكلاب في داخله وهذا باعترافهم وتسويقهم لديمقراطيتهم التي تستند على الشعب كمصدر للشرعية.

والنظام الملكي الذي تأسس في ليبيا في منتصف القرن الماضي لم يكن اختيارا شعبيا، بل فرضته القوى الاستعمارية التي ورثت ليبيا بعد هزيمة إيطاليا في الحرب العالمية الثانية فشرعيته تمامًا كشرعية فبراير سندها وقوتها مستمدة من التدخل الخارجي وأي حديث عن عودة للشرعية وتسويق لعائلة السنوسي يعتبر باطلا وغير قانوني ولا يستند لرغبة شعبية.

إدريس السنوسي عقد معاهدة مع المستعمر الإيطالي عقب احتلال ليبيا عرفت بمعاهدة الرجمة، ولته أميرًا على برقة تحت العلم والسيادة الإيطالية، وبدّل ولاءه لبريطانيا بعد هزيمة إيطاليا في الحرب العالمية الثانية فأبقته أميرًا لبرقة ومن ثم فرضته القوى التي ورثت المستعمرة الإيطالية ملكًا على ليبيا ولم يستشيروا الليبيين وكتب له (السيد بلت) الدستور الذي حكم به والذي يبقي على الوجود العسكري البريطاني والأمريكي وأبقى على عشرات الآلاف من المعمرين الطليان.

ذاكرة الليبيين لا تحمل أي شيء إيجابي يجعلهم يطلبون عودة الملكية بأي صورة، بل إن الذاكرة الليبية تتذكر سيطرة الطليان على كامل الساحل الغربي الليبي من الأراضي الزراعية الخصبة من مصراتة إلى صبراتة وجنوبًا إلى ترهونة وسيطرتهم على المهن الحرفية والصناعية والتجارية ويتذكرون كيف كانت مدينة طرابلس تقفل في وجه الليبيين والكلاب في عطلة نهاية الأسبوع، وتحتفظ ذاكرتهم بسيطرة القوات الأمريكية على الساحل الغربي من سرت إلى رأس أجدير، وتتذكر الطفلة معيتيقة التي راحت ضحية لعبث وعربدة الطيارين الأمريكيين، وتذكر سيطرة الجيش الإنجليزي على المنطقة من رأس الأنوف إلى طبرق.

لم ينس الليبيون الفاقة والفقر والعوز والأمراض وهم يطوفون الشوارع حفاة يمسحون أحذية الطليان والجنود الأمريكان ويشتغلون في أحط وأقذر المهن وخدما في بيوت ومزارع الطليان نهارًا ويعودون إلى أكواخ الصفيح مساءً وهي لا تقيهم برد الشتاء ولا تحميهم من حر الصيف.

بسذاجة وبعقلية طفولية صدق البعض حد الاعتقاد أن بريطانيا تخلت عن نزعتها الاستعمارية وأحلامها الإمبراطورية وانكفأت على نفسها وعادت إلى جزيرتها في شمال الأطلنطي حيث غربت عنها الشمس طول اليوم وهي التي كانت شمسها لا تغرب، وحتى وهي تفاجئ العالم وتوقظ المارد الاستعماري القديم وهي تحشد أساطيلها في ثمانينيات القرن الماضي لتقمع انتفاضة الشعب الفوكلندي في جزر (المالفيناس الأرجنتينية) التي تطالب بالاستقلال وتقرير المصير الذي يكفله ميثاق الأمم المتحدة وبريطانيا أحد واضعيه ولم نسمع صوتا حقوقيا واحدا حتى همسًا يدين هذا السلوك المعادي لحقوق الإنسان ويصفه بالتدخل السافر في مناطق أخرى

زر الذهاب إلى الأعلى