ملفات وتقارير

المصالحة الوطنية بين مطرقة العبث المحلي وسندان التدخلات الأجنبية المشبوهة

المصالحة تحتاج إلى رعاية محلية من قوى محايدة من الجهاز القضائي والأكاديمي

متابعات – الموقف الليبي
‏تعد المصالحة الوطنية مطلبا شعبيا واسعا لإزالة الآثار الناتجة عن حالة الاحتراب التي فرضت على الليبيين بسبب التدخل الأجنبي عام 2011، وما أعقبها من نزاعات مسلحة خلفت كثيرا من الأضرار لإعادة بناء المجتمع الليبي على أسس سليمة، حيث اتسمت الفترة ما بعد 2011 بعدة ممارسات حربية وإجرامية أدت إلى سقوط العديد من الضحايا من مختلف الأطراف واعتقال أعداد كبيرة من الأفراد من الرجال والنساء، ونهب الممتلكات الخاصة والعامة ونزوح أعداد هائلة من العائلات من بيوتها ومدنها وهجرة أعداد كبيرة أيضا إلى الخارج.
هذا التدافع الخطير الذي حدث في ليبيا دون أسباب حقيقية، جاء نتيجة أعمال مفتعلة من الخارج لا يمكن تجاوزها إلا من خلال مشروع وطني للمصالحة.
السؤال الذي يطرح نفسه: هل المصالحة أساس بناء الدولة الليبية من جديد أم أن المصالحة لا تتحقق إلا بإعادة بناء الدولة؟ وهذا سؤال مهم رغم التناقض الظاهر، فمن قبل الآخر؟ لأن المصالحة تحتاج إلى إجراءات، وهذه الإجراءات تتطلب وجود دولة واحدة لها القدرة على المصالحة وتنفيذ تلك الإجراءات، وإقامة هذه السلطة القوية القادرة في نفس الوقت يحتاج إلى قدر من المصالح الوطنية التي تمكن مؤسسات الدولة من القيام بواجباتها، وهذه هي المعضلة الرئيسية.
لقد حاولت مجموعات كبيرة من الليبيين إنجاز المصالحة على المستويات المحلية وعقدت عديد المؤتمرات واللقاءات في مختلف المناطق وتأسست مجالس لا حصر لها تحت مسمى المصالحة الوطنية، لكن شيئا حقيقيا لم يحدث استثناء ما أقدم عليه مجلس النواب من إصدار “قانون العفو العام” وتمكين أعداد كبيرة من الليبيين المهاجرين للخارج النازحين أيضا من الإقامة بحرية في المناطق التي سيطرت عليها القوات المسلحة العربية الليبية، غير ذلك لم تحدث إنجازات مهمة في موضوع المصالحة لو استثنينا بعض الحالات الفردية التي نجحت في حل مشاكلها نتيجة تدخل أطراف معينة وخاصة النائب العام في طرابلس.

في هذا التقرير نحاول تسليط الضوء على المصالحة الوطنية وشروطها وأطرافها ومتطلباتها
شروط المصالحة الوطنية
من أهم شروط المصالحة الوطنية معالجة الآثار الناتجة عن الأحداث في 2011 وهذا يتطلب:
أولا: إصدار قانون للعفو عن الحق العام وإرجاء المطالبة بالحقوق الخاصة إلى حين تمكن القضاء من أداء دوره بحرية ونزاهة، وثانيا: الإفراج على كل المعتقلين على خلفية الصراع في 2011 وما تلاه من نزاعات مسلحة، وثالثا: جبر الأضرار، ورابعا: رد المظالم، خامساً: الدعوة إلى حوار وطني بين كل الأطراف لتشكيل سلطة وطنية موحدة متفق عليها.
أطراف المصالحة الوطنية
يمكن تحديد أطراف المصالحة الوطنية في طرفين رئيسيين هما قوة النظام الجماهيري السابق وقوة المجموعات التي سيطرت على الدولة بعد فبراير 2011، يضاف لهما قوة “حركة الكرامة” التي نجحت في تطهير ليبيا في الشرق والجنوب من المجموعات الإرهابية المسلحة، هذه الأطراف يمكن تحديدها من خلال مجموعات نجدها في تشكيلات السلطة الحالية وفي القبائل والأحزاب رغم هشاشتها، وفي ما يسمى منظمات “المجتمع المدني”، وهذه الأطراف تستطيع تحديد ممثلين عنها يتولون طرح وجهات نظرهم في المصالحة الوطنية.
من يرعى المصالحة الوطنية؟
بالتأكيد إن أي مصالحة تحتاج إلى راع ينبغي أن يكون محايدا ويتمتع بالقبول من جميع الأطراف وفي المجتمع الليبي يوجد هناك راع مثالي وهو الجهاز القضائي الذي يتمتع باحترام الجميع، والجهاز الأكاديمي، حيث الأكاديميون يشكلون ميزانا يمكن أن يتكئ عليه المختلفون أثناء عملية المصالحة، لذلك فإن أي مصالحة ينبغي أن يتواجد بها كل الأطراف الرعاة في نفس الوقت.
‏الراعي الأجنبي
إن الأزمة الليبية مفتعلة من الخارج، ولقد فشلت كل محاولات المصالحة نتيجة تدخل أجانب يتحدثون عن المصالحة في الشكل، لكنهم في الواقع أطراف لا يريدون لليبيين أن يتصالحوا ويعرقلون إقامة الدولة الديمقراطية التي يحدد فيها الليبيون مصيرهم بأنفسهم دون وصاية من أحد، لذلك من أهم اشتراطات المصالحة من وجهة نظرنا أن تكون ليبية خالصة بعيدة عن الأجندات وعن الأصابع الأجنبية، لكن كون ليبيا تحت الوصاية الدولية نتيجة القرارات الظالمة لمجلس الأمن الدولي، فإن ذلك يفرض ضرورة وجود راع أجنبي على أن يكون محايدا، هذا يستبعد الغرب لكونهم طرفا أساسيا فيما يجري في ليبيا، لذلك فإن الرعاية الأجنبية التي تكون مقبولة وفعالة ومفيدة، هي الاتحاد الإفريقي ورعاية مجموعة “بريكس”.
محاولات ليبية للمصالحة
منذ بدء الأزمة وأثناء المواجهة انعقد ملتقى القبائل الليبية والمدن الليبية في 5-5-2011 حيث اجتمع أكثر من 2000 من شيوخ القبائل من مختلف أنحاء ليبيا يومي 5 و6 مايو 2011، وناقشوا جدول الأعمال المكون من حقن دماء الليبيين، التدخل الأجنبي ودحر العدوان، الحفاظ على وحدة ليبيا، مستقبل ليبيا، ومنع انفراط عقد السلم الاجتماعي.
ثم عقد بتاريخ 2014.05.25 اجتماع العزيزية لمؤتمر القبائل والمدن الليبية للشروع في المصالحة الوطنية الذي طالب بإلغاء كل القوانين والقرارات المعيبة ذات الصبغة الإقصائية، ومراجعة جميع الاتفاقات الدولية المبرمة التي مست السيادة الليبية، وحل جميع الميليشيات، وعودة المهجرين والنازحين، وإطلاق سراح جميع المعتقلين، والنأي بالقبائل عن الصراعات السياسية العسكرية، وبناء كل مؤسسات الدولة الرسمية بما يحفظ الهيبة والسيادة الليبية.
كما التأم ملتقى القبائل الليبية بالقاهرة في 2015م الذي اعتبر أن الحوار المجتمعي من أهم السبل للخروج من الأزمة الراهنة، القضاء لا سلطان عليه وتفعيله واجب شرعي، والتبرؤ المطلق من الإرهاب والإرهابيين ودعم أجهزة الأمن، ومعالجة أوضاع المهجرين والنازحين والمعتقلين، والدعوة إلى خطاب إعلامي وديني متوازن، وتحميل المجتمع الدولي مسؤولياته تجاه تخليه عن الشعب الليبي، رفض أي ترتيبات دولية بخصوص الشأن الليبي ما لم تكن نابعة بإرادة ليبية حرة وتوافق وطني.
اعتمد مؤتمر القبائل والمدن الليبية الذي اختتم أعماله بسلوق في 07 أكتوبر 2015 رؤيته للمصالحة المجتمعية وخريطة الحل في ليبيا في اجتماع ممثلي القبائل والمدن الليبية، تحت شعار “من أجل إعادة ليبيا وطناً للجميع آمناً ومستقلاً ومسؤولاً والسيادة فيه لشعبه” التي تشمل المبادئ والأهداف الرئيسة التي توخاها المؤتمر من المصالحة المجتمعية، وحل المشكل الليبي، والأسس المحددة للدولة الليبية المستهدفة في المرحلة الدائمة، وأهمية المصالحة ودور القبائل في معالجة تداعيات المؤامرة على ليبيا ومحيطها، ومراحل الحل التي تبدأ بالمرحلة الانتقالية بشقيها مرحلة استعادة الأمن والاستقرار ومرحلة التصالح، ثم المرحلة الدائمة، وأخيرا أطراف الحوار.
حوار الصخيرات للمصالحة بين أطراف فبراير المتناحرة
حقيقة حوار الصخيرات الإقصائي، حيث مارس الإقصاء والخديعة ومكن تيارا معينا، وكرس وضع ليبيا تحت الوصاية الدولية، وتسليمها للمافيات لتنهب ثرواتها وتستخدمها مركزا لأنشطتها الإجرامية من اتجار في البشر وتجارة المخدرات وغسيل الأموال. إنه التصالح الإقصائي الذي تقوده الأمم المتحدة، والمفخخات المزروعة في المسودة الموقعة في 17 ديسمبر 2015 التي تضمن سيطرة تيارات معينة، ومن أهم نتائج اتفاق الصخيرات الذي أريد فيه تشكيل سلطة موحدة وتوحيد الجماعات المسلحة، أن نشبت حرب ضروس في 2019 قادت إلى مزيد من التدخل الأجنبي ومنع الجيش الوطني من السيطرة على العاصمة.
دور الاتحاد الإفريقي في المصالحة الوطنية
في عام 2011 حاول الاتحاد الإفريقي الإسهام في عدم تطور الأزمة الليبية إلى أوضاع أخطر وشكل في القمة الإفريقية في أديس أبابا 2011 لجنة رفيعة المستوى من رؤساء عدد من الدول هم جنوب إفريقيا والكونغو والنيجر وأوغندا وموريتانيا وأوكل إليها مهمة الاتصال بالجهات الليبية والدولية لحل الأزمة الليبية، لكن قرارا غربيا كان قد اتخذ بإسقاط الدولة الليبية وليس فقط النظام الليبي، ولذلك تمت عرقلة كل جهود اللجنة الإفريقية رفيعة المستوى ولم تتمكن من أداء مهامها، وبعد التطورات الحزينة في ليبيا لم يتوقف القادة الأفارقة عن محاولاتهم في معالجة الأزمة، واستمرت اللجنة في عملها وعقدت لقاءات عديدة بالأطراف الدولية والإقليمية والمحلية في محاولة للبحث في إطار عملي فعال للحل، لكن المجتمع الدولي المختصر في الغرب لم يسمح لهم بأي دور حقيقي.
في حوار جنيف عام 2020 الذي أنتج مع سمي حكومة الوحدة الوطنية كلف الاتحاد الإفريقي بتولي المصالحة الوطنية وتحمس القادة الأفارقة لهذا المشروع وتولى الرئيس الكونغولي “ساسو انجيسو” المهمة مع السيد “موسي فكي” رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي الذى لعب دورا كبيرا في محاولات إنجاح المصالحة الوطنية، لكن اتفاق جنيف في نفس الوقت أوكل مهمة المصالحة إلى ما سمي المجلس الرئيسي فنجح هذا الأخير في القفز على مهمة الاتحاد الإفريقي وجيرها لنفسه ولمشروع وطرح مبادرة اتسمت بالشكلية ميعت فكرة المصالحة وفرغتها من مضمونها، وتشكلت لذلك الغرض لجنة تحضيرية لعقد مؤتمر واسع للمصالحة لم تمثل فيها الأطراف خير تمثيل، ‏واختصرت المصالحة في أمر عجيب وهو إصدار قانون إصلاح ذات البين المشوه في شكله ومضمونة.
إن المصالحة لا تحتاج إلى قانون بل تحتاج إلى إجراءات معروفة وبسيطة وسهلة، أولها الإفراج عن المسجونين على خلفية الصراع، وجبر الأضرار ورد المظالم والعفو عن الحق العام، تشكلت هذه اللجنة التحضيرية وانتقلت من مكان إلى مكان في عملية استعراضية لإيهام الناس بأن المصالحة صارت قاب قوسين أو أدنى، وقد بينت عديد الأطراف الليبية موقفها من العبث بموضوع المصالحة وتحويلها من عملية استراتيجية وطنية إلى منصة للدعاية الانتخابية والكسب السياسي والمادي.
‏ما يحاول المتداخلون الأجانب تجاهله أن المشكلة ليست خلافات بين الليبيين لعدم وجود أسباب حقيقية تقسم المجتمع الليبي فهو موحد مذهبيا واجتماعيا وإثنيا، ولو سلمنا جدلا بوجود بعض المجموعات القبلية التي ترى أن لها خصوصية معينة فإن ذلك لم يرق في أي فترة من التاريخ الليبي إلى صراع مسلح ولا حتى إلى وضع يحتاج إلى مصالحة أو قانون، ما يجرى في ليبيا هو بفعل فاعل أجنبي، الليبيون سيعيشون إخوة متحابين عندما تزول آثار أحداث 2011.
المؤتمر التأسيسي الحل الجذري للأزمة الليبية
الحل السياسي الجذري والسلمي هو إقامة مؤتمر تأسيسي لإعادة بناء الدولة ومعالجة الأزمة في جوهرها وليس ظاهرها، يعكف المؤتمر على تحديد شكل الدولة ونظامها السياسي والاقتصادي، ويشكل المؤتمر إدارة مؤقتة لتوفير الخدمات الأساسية للمواطنين والشروع في المصالحة وخلق البيئة الملائمة لإجراء الانتخابات تمهيدا للوصول إلى المرحلة الدائمة، على أن يتكون المؤتمر التأسيسي من كل الأطراف الليبية دون إقصاء التي تختار من تراه مناسبا لتمثيلها في المؤتمر، بالإضافة إلى أطراف الصراع الرئيسية تدعى الفئات المحايدة والمهمة في نفس الوقت كالأكاديميين والمثقفين والفنانين والنقابيين والقضاء والقبائل، على أن تكون نسب مشاركة الشباب والمرأة من بين ممثلي الأطراف مناسبة.
الخلاصة
إن العبث الذي يجري تحت شعار المصالحة الوطنية لن يستمر طويلا، فالشعب الليبي مدرك لحقيقه ما يدبر ضده وواع بأبعاد المؤامرة.
ليبيا تحتاج إلى مشروع وطني جاد لتحرير القرار الليبي من الأيادي الأجنبية، والنخب الليبية تفهم حالة الضعف التي تصيب الغرب الآن وآثارها الإيجابية على ليبيا، وعليها أن تطور كفاحها من أجل الخروج من عنق الزجاجة، وأن تستند إلى نفسها وتعتمد على قوتها الذاتية ودعوة الجهاز القضائي والأكاديمي إلى ضرورة لعب دورهما المطلوب وقيادة عملية جدية لحل سياسي ينتج عنه برنامج وطني للمصالحة المجتمعية ويمكن من بناء ليبيا الجديدة على أساس متين من الديمقراطية يسمح لليبيين بالتعايش السلمي ويجُبُّ كل آثار التدخلات الأجنبية.

زر الذهاب إلى الأعلى