دولة اليهود وجريمة الإبادة الجماعية من استجداء العطف العالمي إلى الوقوع في مأزق الإدانة
مصطفى إبراهيم أبو خزام
لم يظهر مصطلح الإبادة الجماعية إلا في عام 1944 حينما استخدمه المحامي البولندي اليهودي رافائيل ليمكن Raphael Lemkin في مؤلفه عن حكم ألمانيا النازية للأراضي الأوروبية المحتلة خلال الحرب العالمية الثانية. وقد كان من ضمن أغراض ليمكن الأساسية في مؤلفه هذا، إدانة الجرائم النازية ضد اليهود واعتبار أن ما يتعرضون له من فظائع إنما يشكل نمطا جديدا من الجرائم الدولية التي تستهدف البشر استنادًا إلى انتمائهم القومي أو العرقي أو الديني أو الإثني، خلافاً لجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي لا تتطلب أركانها المادية والمعنوية مثل تلك الاشتراطات المتعلقة بالانتماء القومي أو العرقي… إلخ.
وفي عام 1948 أبرمت الدول تحت قُبة الجمعية العامة للأمم المتحدة اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها. وتسمح المادة 9 من الاتفاقية للدول التي صادقت عليها بأن ترفع دعاوى أمام محكمة العدل الدولية حين تتوفر لها الأدلة التي تُثبت انتهاك هذه الاتفاقية من قبل أي من الدول الأطراف بها.
وعلى هذا الأساس، تقدمت جنوب إفريقيا برفع دعوى أمام محكمة العدل الدولية تتهم فيها دولة الاحتلال الإسرائيلي بخرق التزاماتها بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها ضد الشعب الفلسطيني.
وتأتي أهمية هذه الدعوى من أن القرار الذي سوف يصدر عن المحكمة في شقيه المستعجل والموضوعي، يحمل صفة الإلزام وليس مجرد توصية أو رأي استشاري، لأن القضية تتعلق بمعاهدة دولية ملزمة لطرفيها (المدعي والمدعى عليه)، وهو ما أرغم دولة الاحتلال الإسرائيلي للخضوع أمام المحكمة.
إن لائحة الدعوى التي قدّمها الفريق القانوني الجنوب إفريقي البارع، أثبتت وبما لا يدع أي مجال للشك ارتكاب الصهاينة لهذه الجريمة، وذلك من خلال التثبت من الوقائع عبر جملة من المعلومات والأدلة المستقاة من مصادر ذات مصداقية عالية جُمعت من تقارير للأمم المتحدة وتوثيقات صحفية للإعلاميين داخل قطاع غزة، فضلاً عن الربط الدقيق بين إثبات وقوع الأفعال المادية التي تشير إليها المادة الثانية من الاتفاقية وتصريحات قادة الاحتلال (نتنياهو، سموترتش، بن غفير، غالان) المتعددة والمتسقة مع بعضها بعضا والتي تشكل الركن المعنوي الذي يعبر عن وجود نيّة مقترنة بسلوك مادي ممنهج لارتكاب هذه الجريمة ضد الشعب الفلسطيني.
في مقابل ذلك، قدم الفريق الإسرائيلي مرافعة ضعيفة، لا تستند إلى حجج قانونية مقنعة ودامغة، بل مجرد آراء ومزاعم سياسية وأيديولوجية لا يُعتد بها في ميدان القضاء والعدالة الدولية، مثل إنكاره حالة واقع الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين بالاستناد إلى وعد بلفور المشؤوم عام 1917، والحق التاريخي لليهود في فلسطين، وما إلى ذلك من افتراءات لا تسندها وقائع التاريخ وقواعد القانون.
ويبقى السؤال: هل ستتمكن محكمة العدل الدولية بناءً على المعطيات السابقة، من إدانة دولة الاحتلال الإسرائيلي بموجب قرار قضائي ملزم بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني؟
لا أحد يضمن النتائج والنهايات، ولكن بإمكاننا أن نقول إن محكمة العدل الدولية تعد أكثر أجهزة الأمم المتحدة التي تتمتع بالمصداقية والعدالة، ويتمتع قضاتها الخمسة عشر بالسيرة الحسنة والنزاهة القانونية نظراً لانتخابهم من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة التي تمثل فيها الدول بالتساوي بعيداً عن سيف مجلس الأمن المسلط على رقاب المستضعفين. ويكفي أن نشير هنا إلى قرارها الشهير الذي أدانت فيه تدخل الولايات المتحدة الأمريكية لدعم تمرد قوات الكونترا في نيكاراجوا ضد الحكومة الشرعية للبلاد في ثمانينيات القرن الماضي، وكذلك رأيها الاستشاري الشهير عام 2004 الذي أقرت فيه عدم مشروعية بناء الكيان الصهيوني جدار الفصل العنصري في فلسطين المحتلة.
ورغم يقيننا بأنه في حال تمت إدانة دولة الاحتلال، فإنها ستستمر في إمعانها وصلفها المعتاد في ضرب قواعد القانون الدولي عرض الحائط، وعدم الامتثال لأي من القرارات الدولية التي تدين سياساتها الإجرامية، وهو ما عبر عنه بجلاء رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو، حينما أشار إلى أن محكمة العدل الدولية لن تردع (إسرائيل) عن المضي قدماً في مواصلة حربها في قطاع غزة حتى تحقيق النصر الكامل، إلا أن صدور قرار الإدانة في حد ذاته يُعد انتصاراً للقضية الفلسطينية وسوف ينطوي على تداعيات سياسية وقانونية وأخلاقية شديدة التأثير على دولة الاحتلال الإسرائيلي، كما سيشكل مزيداً من الحرج إلى داعميها من الدول الغربية أمام شعوبهم وشعوب العالم أجمع ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية عرّاب استخدام الفيتو في مجلس الأمن لصالح الكيان الصهيوني والداعم الأكبر له.
إذ سيؤدي صدور قرار إدانة من أعلى مؤسسة قضائية دولية ضد دولة الاحتلال الإسرائيلي بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، إلى المزيد من المهانة والإزراء العالمي لهذا الكيان البغيض، الذي كان أول من يوظّف مصطلح الإبادة الجماعية في سبيل استجداء عطف العالم لبناء دولته المزعومة وخدمة مشروعه الاستعماري الاستيطاني تحت مزاعم إبادة النازية لليهود في الحرب العالمية الثانية.